كركوك ، تاريخ عريق و واقع مرير
لمحات تاريخية خاطفة (*)
د.جبار قادر

 

 

قد يبدو الحديث عن التاريخ البعيد في قضية معقدة و متأزمة كمشكلة كركوك و التي تعاني من آثارها المأساوية عشرات الالاف من الناس المدنيين ، نوعا من الترف الفكري الذي لا طائل منه ، ولكن الذي يبرر تقديمي لهذه الورقة هو طلب القائمين على هذه الفعالية العلمية - السياسية و حقيقة أنه يصعب فهم معضلات اليوم دون معرفة خلفياتها التاريخية ، لذلك أتمنى أن لا تخلو هذه اللمحات الخاطفة من تاريخ كركوك الطويل من فائدة .

شهدت سنوات العقد الأخير إهتماما لا بأس به بكركوك و نشر العديد من الكتب و الدراسات و المقالات التي غطت بعض الجوانب التاريخية و السياسية و الجغرافية و الأقتصادية لقضية كركوك لذا لم أجد مبررا في إيراد النصوص و المقتبسات المطولة من بطون الكتب و الدراسات بل سأشير و بإختصار شديد الى بعض المحطات التاريخية المهمة برأيي، وقد لا تكون كذلك بالنسبة للعديد من الحاضرين و القراء ، لذا سأكون سعيدا للأستماع الى مداخلاتكم و تعقيباتكم و إستفساراتكم .

إذا وضعنا جانبا الحكايات الكثيرة و المتضاربة في تفاصيلها والتي ترويها الفئات المختلفة من سكان كركوك عن تاريخ مدينتهم و الأقوام التي شاركت في بناء هذه المستوطنة (الكوتية -الحورية - الميتانية) أو تلك التي سكنتها و سادت فيها ، و هي قصص تغطي فترة تاريخية طويلة تمتد الى الألف الثالث قبل الميلاد و أحيانا الى أبعد من ذلك ، وتجمع هذه القصص في طياتها أخبارا عن سلسلة من الأقوام و القبائل التي سكنت تلك المنطقة مثل ( اللولوبيين ، السوباريين ، الكوتيين ، الخوريين أو الحوريين ،الكاشيين ، الميتانيين ، الميديين و غيرهم من الأقوام التي لعبت فيما بعد دورا أساسيا في تكوين الشعب الكردي الحالي ، فضلا عن قوى دولية كبرى اغارت عليها و حكمتها سنينا طويلة لتخلف آثارا مهمة كالآشوريين و الساسانيين و السولوقيين و غيرهم) ،أقول إذا تجاوزنا هذه الأخبار سنرى بأن التاريخ يشير الى أن عمر كركوك أكثر من خمسة آلاف سنة على أقل تقدير و هي بذلك واحدة من أقدم مدن المنطقة و بنيت شأنها شأن العديد من المدن الأخرى في العالم القديم على شكل قلعة على تلة كبيرة و أحاطت بها الأسوار من كل الجهات لصد هجمات القبائل و الجيوش المغيرة و كانت لها بوابات أربع . وتدلل الآثار التاريخية الغنية التي عثرت عليها قرب كركوك الى هذا التاريخ الطويل و دور المدينة و المنطقة في حضارة بلاد ما بين النهرين .

و كانت كركوك خلال العصور الوسطى جزءا و في أكثر الأحيان مركزا لإقليم شهرزور، أحد أشهر إقاليم كوردستان الى جانب إقليمي الجزيرة و الجبال على مر العصور الأسلامية حتى أواخر العهد العثماني.(1)

ويهدف ممثلوا الفئات المختلفة من سكان المدينة من وراء تلك الحكايات و القصص و البحث في بطون كتب التاريخ الى الحصول على أكبر قدر ممكن من هذه الروايات أو مايسمونها ب(الشواهد و الإثباتات )على تاريخية تواجدهم في المنطقة و توظيف ذلك في الصراعات السياسية الدائرة بشأن الهوية التاريخية و القومية و الثقافية للمدينة و المحافظة ، متناسين في أغلب الأحوال حقيقة أن حقوق المواطنة و التمتع بالحريات الأساسية يجب أن لا تستند لا على القدم التاريخي للناس و لا على كثافتهم العددية رغم أهميتهما بطبيعة الحال في تحديد هوية المناطق قوميا أو ثقافيا .

 مع تفكك الدولة العباسية و سيطرة القبائل الرعوية المغولية و التركمانية تعرضت كركوك كغيرها من المدن و الحواضر الشرقية الى حملات التدمير و النهب و الفوضى السياسية على أيدي السلاجقة و المغول و الأتابكة و القرقوينلو و الآق قوينلو و الصفويين و العثمانيين الى جانب صراعات الزعماء القبليين و الإقطاعيين الكرد المحليين . و نجمت عن هذه الصراعات الطويلة التي إستغرقت فترة زمنية تتجاوز الألف عام ، حالة مريعة من الركود الإقتصادي و الإجتماعي و الثقافي .

وجاء الإحتلال العثماني للمنطقة في النصف الأول من القرن السادس عشر ليكرس حالة التخلف و الركود و النهب العثماني لأربعة قرون كاملة شهدت المنطقة خلالها الويلات بسبب الصراع الطويل بين الدولتين العثمانية و الأيرانية وبخاصة خلال حملات الشاه عباس الأول في عام 1623 و بخاصة أثناء حملة نادر شاه و إحتلاله لكركوك في عام 1743 و إستعادة العثمانيين لها في عام 1746. تركت هذه الحملات  آثارا كبيرة على البنى الأقتصادية و الأثنية و الأجتماعية في كركوك و توابعها . تحولت كركوك منذ القرن الثامن عشر الى ساحة لصراع باشوات بغداد و شهرزور من أجل السيادة فيها . وهكذا يمكننا القول بأن كركوك لم تنعم على مدى قرون طويلة بالأمن و السلام . ولكنه و رغم السيطرة الشكلية  العثمانية على كركوك خلال العصر الحديث  ، إلا أن السلطة الفعلية فيها و في غيرها من مناطق كوردستان كانت بأيدي الزعماء القبليين و الأقطاعيين المحليين و بخاصة أمراء بابان و أردلان .

لم تكن كركوك في العصور الوسطى سوى مجموعة من البيوت المحاطة بسور كبير على ربض بين داقوق و أربيل، أي أن داقوقا التاريخية،التي أصبحت فيما بعد قضاء و ناحية و قضاء مرة أخرى تابعا لكركوك ، كانت أكثر صيتا و أهمية من كركوك نفسها ، بل أن الأخيرة و لغاية أواخر القرن   أواخر الرابع عشر الميلادي غالبا ما كانت تتبع داقوق اداريا و اقتصاديا وكانتا في الوقت ذاته على إتصال بأربيل و شهرزور و إمتداداتهما اوثق من إتصالهما بأية بقعة أخرى في المنطقة من جميع الأوجه(2 ).

ورد إسم كركوك بصيغته الحالية لأول مرة في التاريخ في العهد التيموري في كتاب شرف الدين علي يزدي ( ظفر نامة ) الذي كتب في حدود سنة 1424 / 1425 م (3 ).

ويبدو أن القلعة المحاطة بالأسوار بقيت لقرون طويلة منطقة سكنية وحيدة في المدينة و لم يتجاوز عدد بيوتها عند منتصف القرن السادس عشر المائة و سبعين بيتا وفق بعض الروايات التاريخية . كانت بيوت باشوات شهرزور حتى منتصف القرن التاسع من أبرز البيوت التي كانت تضمها قلعة كركوك. وشهدت نفس الفترة التاريخية تقريبا ظهور البيوت و المحلات التجارية خارج القلعة ، إذ لدينا بعض الإشارات تعود الى عام 1548 عن حي إمام قاسم الكردي الشهير في كركوك الذي ضم آنذاك 21 دارا سكنية و شهد جامعه المعروف عمليات الترميم في الأعوام 1614 ، 1691 و 1894 . كما شهدت بداية القرن الثامن عشر بناء تكية الشيخ عبدالرحمن التي تعرف بالتكية الطالبانية . كما  تشير المصادر نفسها الى كنيسة على تلة حمراء الى الشرق من القلعة على طريق كركوك- السليمانية الحالي (4).

وكانت كركوك تدار بعد إستيلاء العثمانيين عليها بموجب نظام إقطاعي (دربكي ) ، حيث يتولى (متسلم ) إدارتها مقابل رسوم مقطوعة ، و لما ألغي نظام الحكم الإقطاعي عام 1840 ، أعيدت إدارة كركوك الى ولاية شهرزور و كانت كركوك مركزا لها . و في عام 1879 أصبحت هذه الولاية سنجقا أي متصرفية الحقت بولاية الموصل .

من المناسب أن أشير هنا الى حقيقة تاريخية مهمة و هي أن لواء كركوك كانت تضم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى أقضية كركوك ، أربيل ، رانية ، رواندوز ، كويسنجق و كفري و جميع توابع هذه البلدات . وفي عام 1918 فقط قام البريطانيون بفصل الأقضية الواقعة الى الشمال من الزاب  ليكونوا منها لواء بإسم لواء أربيل . أي أن لواء كركوك كان يضم جميع أراضي كوردستان الحالية بإستثناء الأقضية التي كانت تتبع الموصل و شكلت منها عام 1969 محافظة دهوك و قضاء خانقين و توابعه الذي ألحق بولاية بغداد ، لدوافع ترتبط بأهمية موقعها الجغرافي في العلاقة مع إيران. وهكذا فإن إقليم شهرزور يعيش اليوم من دون عاصمته التاريخية . و تشير حقيقة إرتباط هذه المناطق إداريا بكركوك بل و إدارتها إنطلاقا من مركز كركوك الى الهوية التاريخية و الجغرافية للمدينة و المحافظة التي يحاول الكثيرون تحريفها هذه الأيام لأغراض سياسية معروفة .

 يبدو أن كركوك شهدت توسعا لا بأس به في ظل حكم الأمارتين الكرديتين الأردلانية و البابانية. فقد أشار أوتير ، أول سائح فرنسي زار المدينة في نيسان من عام 1735 و عاد إليها مرة أخرى عام 1739 ، الى مدينة كركوك بأنها كانت في النصف الأول من القرن الثامن عشر مدينة متوسطة الحجم و تقع في منطقة سهلية تتخللها التلال، ولها سور و قلعة حصينة ذات إنحدار حاد و عسير ، و تمر بأسفلها ساقية اسمها (خاصة - كلمة كردية تعني الجيد أو العذب ) أي الماء العذب . وأشار بأن القلعة تعود الى عصور قديمة جدا،وكانت المدينة عندما زارها تتكون من قسمين : ضم القسم الأول القلعة و كان يعيش فيها عدد غير كبير من السكان ، أما القسم الثاني فقد شكلته المنطقة المحيطة بالقلعة و التي كانت تضم المركز التجاري للمدينة . وأؤكد أوتير أيضا حقيقة كون كركوك عاصمة لباشالق " باشوية " شهرزور والتي إعتبرها جزء من كوردستان، و ضمت حكومة شهرزور برأيه 32 مقاطعة ، وكان يحد باشاليق شهرزور كل من آذربايجان و بلاد بابان و بلاد بغداد و الموصل و عمادية و حكاري ، كما يذكر بأن باشا شهرزور جعل من كركوك محلا لإقامته (5).

شهد القرن الأخير من عمر الدولة العثمانية صراعا كبيرا للسيادة على كركوك بين باشوات بغداد    و شهرزور . فقد كان ولاة شهرزور يعينون من الباب العالي مباشرة و يديرون شؤون الولاية من  مركزها كركوك بإستقلال تام عن سلطات باشوات المناطق المحيطة بها. لكن باشوات بغداد أخذوا يعينون رجالهم كمتسلمين في كركوك منذ منتصف القرن الثامن عشر. ولم يكن ذلك ليرضي باشوات   شهرزور الذين لم يتخلوا عن حقهم في إسترداد عاصمة ولايتهم أبدا و مثلوا على الدوام تهديدا على سيطرة ولاة بغداد على كركوك . ربما يتساءل المرء هل للصراع الدائر حاليا على كركوك بين ولاة بغداد و ولاة شهرزور علاقة بذلك الصراع القديم أم لا ؟ .

لم تجذب كركوك إهتمام الرحالة الأجانب كثيرا ، فالرحالة القادم من عاصمة آل عثمان و المتوجه الى بغداد عن طريق الموصل أو العكس كان بإمكانه أن يمر على مسافة عدة من الكيلومترات غرب كركوك ، دون أن يمر بها أو يكتب عنها و ذلك عبر طريق الموصل - قصر مشعان - تكريت - سامراء - بغداد و من ثم الذهاب الى إيران عن طريق خانقين أو غيرها . وهكذا فإن كركوك لم تكن خلال عصر الرحلات مدينة مركزية في ذهن الرحالة و لا مركزا من الصعب أو الخسارة السياسية و الإقتصادية أو المعلوماتية تفادي المرور به . بينما كان هناك طريق آخر يزيد حظ كركوك كمحطة رئيسية من محطات السفر ، وهو الذي يمر بوسط كوردستان، أي عبر السليمانية - سنه أو سنندج - همدان و من ثم اصفهان و طهران إن كان المسافر قادما من بغداد أو الموصل أو عائدا اليهما ) (6).

ومن هنا فإن المعلومات المتوفرة عن كركوك بالمقارنة مع المدن و الحواضر الشرقية الأخرى التي مر بها الرحالة و التجار و المغامرين تبدو فقيرة و مبعثرة ،لا يستطيع معها الباحثون من رسم صورة عنها خلال القرون التي أعقبت الأحتلال العثماني  .

ولكن في المقابل فأن الطريق المار بكركوك قد جرى أستخدامه من قبل الجيوش و القوى المختلفة في حملاتها العسكرية و صراعاتها الطويلة على مدى القرون للسيطرة على هذه المنطقة أو درء الأخطار عن نفسها ، الأمر الذي نجم عنه الخراب و الدمار على مختلف الأصعدة السياسية ، الإقتصادية، لإجتماعية ، و الثقافية التي لا تزال كركوك تعاني من آثارها المريرة .

تشكل نهاية القرن الثامن عشر و النصف الأول من القرن التاسع عشر ( فترة التنظيمات العثمانية) لحظة تاريخية مهمة بالنسبة لكركوك و كوردستان برمتها. و يرتبط ذلك أساسا بتخلي الدولة العثمانية عن سياستها السابقة في كوردستان ،نقصد بها سياسة ترك إدارة مناطق كوردستان بأيدي الزعماء القبليين و الأقطاعيين المحليين لقاء إرسال الأموال سنويا الى الباب العالي و تقديم المقاتلين أثناء الحروب و الحملات و الخطبة بإسم السلطان في الجوامع . وقد إتبعت الدولة العثمانية هذه السياسة في أغلب مناطق كوردستان بعد معركة جالديران 1514 . ولكن مع التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا و إكتشاف الدولة العثمانية لحقيقة تخلفها عن الأولى و قيامها ببعض الإصلاحات بهدف بقاء سيطرتها على المناطق المختلفة ، قررت اللجوء الى الإدارة المباشرة للمناطق الخاضعة لسيطرتها وفي مقدمتها كوردستان . وقد تركت تلك السياسات أثارا جد عميقة على الأوضاع في كوردستان ، فهي ساهمت من جهة على بقاء الكرد عنصرا سائدا في مواطنه و محافظا على ثقافته المحلية و لغته، لكنها ساهمت من جهة أخرى في ترسيخ حالة التفتت التشرذم القبلي و الأقطاعي الى حد كبير الأمر الذي يعاني من آثاره الإجتماعية و السياسة و الأقتصادية و الثقافية المجتمع الكردي الى يومنا هذا .  

وقدر تعلق الأمر بكركوك فإنها تحولت منذ منتصف القرن التاسع عشر الى مركز مهم للأدارة و الجيش العثمانيين و تجنيد العساكر و الموظفين الإداريين . و مع إستقرار الإدارة العثمانية فيها و فئة من الموظفين المدنيين و العسكريين بدأت عملية عثمنة (إقرأ تتريك ) جزء من السكان المحليين  لتبدأ بذلك التغييرات الديموغرافية التي ستصبح على مدى القرن و النصف التالي من سمات الحياة الإجتماعية و الأقتصادية و الثقافية و السياسية في منطقة كركوك(7) .

مع ذلك لا نجد حتى نهاية القرن التاسع عشر مصدرا واحدا يشير الى تغييرات كبيرة في تركيبة السكان الأثنية . يجب التنويه مباشرة الى أنه لا يمكن التعويل كثيرا على الأرقام الواردة في المصادر المختلفة لانها تستند في أغلب الأحوال على التخمين لأناس لم يقضوا في أكثر الأحيان سوى أيام معدودة في كركوك أو توابعها ، لذلك فإن الإختلاف و التناقض الكبيرين ينتابان هذه الأرقام الى المعطيات الى حد كبير . ولعل كليمان الذي زار المدينة عام 1856 أول من يعطينا تخمينا لعدد و تركبية سكان كركوك الذين يقدرهم بحوالي 25 ألف نسمة ( من دون الجنود العثمانيين الذين كانوا يتمركزون فيها)، مؤكدا في الوقت نفسه أن الكرد يشكلون ثلاثة أرباع سكان كركوك (8) .

من الجدير بالملاحظة أن أكثر الرحالة الذين مروا بكركوك و تحدثوا عن تركيبة سكانها لم يدخلوا الجنود و في أغلب الأحوال الموظفين المدنيين العثمانيين أيضا ضمن سكان المدينة ، بل عدوهم غرباء عنها سرعان ما يغادرونها بعد إنتهاء خدمتهم فيها ، بإستثناء من يتخلف منهم بسبب الروابط الإجتماعية أو المصالح الإقتصادية . فقد قدر المهندس الروسي يوسيب تشيرنيك الذي زار المدينة عام 1872 - 1873 لدراسة إمكانية الملاحة في حوضي دجلة و الفرات ، قدر عدد سكان المدينة بين  12 - 15 ألف نسمة و أكد بأنهم جميعا من الكرد بإستثناء ( 40 ) عائلة مسيحية إعتبرهم خطأ من الأرمن . وهكذا نرى بأن التناقض تسود هذه المعطيات خاصة فيما يتعلق بعدد السكان و بقدر أقل قدر تعلق الأمر بتركبيتهم الأثنية . و يحدد شمس الدين سامي ، وهو مؤلف عثماني معروف من أصول ألبانية و من رواد الأدب التركي الحديث ، في مصدر معتبر هو قاموس الأعلام العثماني عدد سكان كركوك ب 30 الفا في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر مؤكدا في الوقت نفسه بأن الكرد يشكلون ثلاثة ارباعهم (9) .

و سيشهد القرن العشرين أكبر عملية عبث بالديموغرافيا في كركوك على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة لتصل الى مرحلة التطهير العرقي بأبشع صوره على يد نظام صدام حسين و لتنحسر نسبة الكرد في كركوك الى 48 % في أواخر العهد المكلي و أقل من ذلك بكثير في العقود اللاحقة . ساهمت ثروة كركوك النفطية في تعميق هذه التغييرات الديموغرافية، فقد تحولت المدينة الى مركز جذب مهم للسكان بعد إستخراج النفط فيها منذ منتصف الثلاثينات و بلغت الزيادة السكانية فيها نسبا عالية جدا بسبب الهجرة المستمرة اليها من مناطق الطرد السكاني. فقد بلغ عدد سكان مركز قضاء كركوك عام 1947 (67756 ) شخصا ، كان أكثر من 18 ألفا منهم من مواليد الألوية الأخرى ، بينما وصل هذا الرقم الى حوالي 20 ألفا حسب إحصاء عام 1957 بينهم عدد من مواليد الدول العربية .

من المفيد أن نشير هنا الى أنه و بعد أربعة عقود من زوال الحكم العثماني عن العراق كان لا يزال في مركز قضاء كركوك 1353 شخصا من مواليد تركيا حسب إحصاء عام 1957. و يؤكد هذا الرقم الأخير   حقيقة طالما حاولت جهات عديدة أن تنكرها لأسباب غير منطقية و نقصد بها سياسة إسكان الموظفين المدنيين و العسكريين الترك في المدينة من قبل سلطات الإحتلال البريطاني بعد إحتلالها لها و بعد هزيمة الدولة العثمانية ( 10 ). لقد برر البريطانيون ذلك بحاجتهم الى هؤلاء الموظفين 

لإدارة اللواء .

وتشير المصادر الى أن عدد المهاجرين الى كركوك خلال 1947 - 1957 فقط بلغ  39 الف مهاجر(11) .

وهناك حقيقة أخرى لا يخلو منها مصدر مهم أو مرجع رصين و هي إعتبار كركوك ضمن أراضي  كوردستان قبل و بعد قيام الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي. إذ تشير الموسوعة البريطانية الى أن مدينة كركوك تقع عند أقدام جبال زاكروس في كوردستان العراق(12) . كما تشير الموسوعة الفرنسية الكبرى الى أن كركوك تعد من أهم المدن في كوردستان الجنوبية و تتمتع بأراض خصبة و تصلها المصادر المائية المختلفة  (13 ) .

خلال العقود الثلاثة الأخيرة و مع تنامي حملات التعريب و الأنفالات و التطهير العرقي تنامت الدعوات و المحاولات لفصل كركوك عن محيطها الجغرافي و الثقافي الطبيعي من خلال الإجراءات القسرية و تشويه حقائق التاريخ و الجغرافيا . لقد أثبتت تجارب التاريخ فشل هذه المحاولات و الدعوات في كركوك و في غير كركوك . في المقابل أظهر سكان كركوك الأصلاء كما كبيرا من التسامح و الروح الإنسانية النبيلة لقبر جميع المحاولات المشبوهة التي كانت تهدف الى تحويل مدينتهم الحضارية الى ساحة للصراع و العنف و الهمجية . 

الهوامش و المصادر :

*) ورقة قدمت في ندوة كركوك بلندن بتاريخ 24 أيلول 2005 .

   1. للمزيد من المعلومات في هذا الباب يراجع : J.H.Kramers & Th.Bois ,Kirkuk, The Encyclopaedia of Islam,new edition. Vol.V. Leiden 1986.PP.144-147. : د.كمال مظهر أحمد،كركوك و توابعها - حكم التأريخ و الضمير ، ج1 ، بلا.م ، ص 5-26 .

   2. . د.كمال مظهر أحمد ، المصدر نفسه ، ص 19 .

   3. Kramers J.H, Th.Bois, Kirkuk , The Incyclopaedia of Islam.  vol.V,  p.144

   4. صبحي ساعتجي ، شذى التاريخ في أحياء كركوك ، إيلاف 14 تموز 2005 .

   5.  ج. أوتير ، رحلة الى تركيا و بلاد فارس ، باريس 1748 ، ص150 ؛ نقلا عن : د.هلكوت حكيم ، كركوك في كتابات الرحالة الفرنسيين ، في كتاب : كركوك مدينة القوميات المتاخية ص 143 .

   6.  د.هلكوت حكيم ، المصدر نفسه ، ص 141 -142 .

   7. للتفاصيل راجع مقالنا المطول: كركوك : قرن و نصف من التتريك و التعريب ، المنشور في (الملف العراقي ) ،العدد 99 ، اذار 2000 ، ص 42-46 ؛وكذلك بحثنا الموسوم ، السياسات الحكومية في كركوك خلال العهد الملكي (1921 - 1958 ) ،في كتاب: كركوك ، مدينة القوميات المتآخية ،لندن 2002 . ص 151- 189 .

   8. أ . كليمان ، رحلة الى كوردستان العثمانية ، من كركوك الى رواندوز ، مجلة كلوب ، باريس 1866 ، المجلد الخامس .ص 199 ، نقلا عن د.هلكوت حكيم ، نفس المصدر ، ص 143 .

   9. للتفاصيل راجع دراستنا : التكوين الأثني لسكان كركوك ( خلال الفترة 1850 - 1958 ) ، في كتاب : كركوك مدينة القوميات المتاخية ، ص 256-272 .

   10. وزارة الداخلية ، مديرية النفوس العامة ، المجموعة الإحصائية لتسجيل السكان لسنة 1957 مطبعة العاني ، بغداد 1963 ، للوائي السليمانية و كركوك - ، ص 241.

   11. الدكتور أحمد نجم الدين ، أحوال السكان في العراق ،القاهرة  1970 ، ص 109 ، نقلا عن : الدكتور نوري طالباني ، منطقة كركوك و محاولات تغيير واقعها القومي ، ط2 ، بلا.م،1999 ص 49.

   12. Encyclopaedia Britannica, Kirkuk

   13. الموسوعة الكبرى،الجزء 31 ، تور 1885 ، ص 485 ،نقلا عن د. هلكوت حكيم ،المصدر نفسه،  ص 142 .