حوار مع الباحث الكردي سربست نبي   
 
حاورته : كورال توفيق

           
سربست نبي

     الكاتب والباحث والمثقف الكوردي الراديكالي سربست نبي أحد الشخصيات الكوردية المعروفة في الوسطين الثقافيين الكردي والعربي ، ولد نبي في مدينة القامشلي في عام 1968 ، حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة ثم درجة الماجستير بمرتبة امتياز عن أطروحته التي تقدم بها في تاريخ الفلسفة الحديثة (الهيغليون اليسار, النقد الفلسفي للدين المسيحي في القرن التاسع عشر) في جامعة دمشق ، وهو حاليا يعدّ لبحث  الدكتوراه بعنوان (مفهوم المجتمع المدني في الفلسفة الحديثة  ...) . صدر له حتى الان كتابان ، الأول بعنوان ( كارل ماركس - مسالة الدين) عن دار كنعان  عام 2002 الذي قدم له د. نصر حامد ابو زيد  . وصدر كتابه الثاني (قضايا وحوارات في الفكر العربي) عن دار البلد- دمشق نهاية أواخر2004 ويعدّ الآن للكتاب ترجمة إنكليزية ستصدر في الولايات المتحدة الأمريكية . وكان لصدور الكتاب الأخير صدى كبير في الوسط الثقافي والإعلامي العربي  ، لما أثاره من قضايا هامة ومسائل نقدية تتصل ببنية الفكر العربي خلال العقد الأخير من القرن الماضي . يتألف الكتاب من جزأين منفصلين ومترابطين في الوقت نفسه .الجزء الأول عبارة عن قراءة نقدية  للفكر العربي والقضايا التي شغلته منذ عصر النهضة العربية .أي منتصف القرن التاسع عشر ، وقد تطرق الكاتب فيه  إلى عدة مسائل منها مسألة  الوحدة القومية والعروبة والإسلام ومسالة الحرية والعلمانية والعولمة  وغيرها.. كما خصص فيها بحثا عن القضية الكردية في الخطاب القومي العربي.  والجزء الثاني عبارة عن مجموعة من الحوارات مع نخبة من المثقفين والمفكرين العرب  الذين يتصدرون الساحة الثقافية العربية حول تلك القضايا المطروحة في الجزء الأول من الكتاب . ولما كان لكتابه هذا أهمية كبيرة لما لاقاه من تأييد ومعارضة وانتقادات وتهجم ، ارتأينا أن نجري مع الباحث سربست نبي هذا الحوار :

 

-  ماذا كان الهدف من اصدار هذا الكتاب ؟ هل هو لمعرفة اتجاهات الفكر العربي كما تذكر في المقدمة أو لأسباب أخرى غير معروفة ؟؟؟  

  

     للكتاب هدف مزدوج، هناك هدف موضوعي يعكس قراءة واسعة وشاملة, إلى حد ما, لاتجاهات التفكير في الخطاب القومي العربي .أيضاً هناك بعد ذاتي .الكتاب في الأساس يعكس تجربة حواري مع مفكرين عرب وعلى مدار سنوات طويلة وفي سياق تفاعلي مع الثقافة العربية لكني أستطيع أن اقرّ بان هذا التفاعل كان شاملا إلى حد كبير ، فقد استطعت خلال هذه السنوات أن أتلمس العديد من الأسئلة والمشكلات التي تسود الفكر العربي وتشغل حيزا كبيرا من اهتمامات المفكر والثقافة العربية بهذا المعنى هناك عنصر ذاتي وراء الموضوع كما أشرت في مقدمة الكتاب، هذا العنصر الذاتي يمكن أن تعديه قراءة للفكر العربي من داخله ومن خارجه معا ، من خارجه بوصفي غير منتم للفضاء الأيديولوجي العربي وغير متطبع بالمجالين الثقافي والاجتماعي ، أنا أنتمي إلى فضاء أيديولوجي مغاير وأستطيع أن أقرأ هذا الخطاب ومشكلاته من خارجه ، وأيضا من داخله بوصفي مثقفا واشتغل من داخل الثقافة العربية ومن خلالها . إذن سلوكي الثقافي, إن جاز التعبير, يمكن وصف بأنه سلوك ذو طابع مزدوج ومتناقض جدلياً وليس تمزقاً في الهوية كما نعتني أحد النقاد الذين يصعب عليهم رؤية الموقف إلا بعين واحدة من موقع انتمائهم الجزئي. من هنا يتعذر أن يجسدهذا السلوك إلا قلة من المثقفين ممن أتيح لهم أن يؤدوا هذا الدور من هذا الموقع المتناقض ، فالمثقف العربي لا يمكنه إلا أن يكون مثقفاً عربيا في حين أنه كان  بوسعي أن أكون عربيا ولا عربيا في الوقت نفسه بسبب هويتي الثقافية المزدوجة. فأنا كاتب كوردي الأصل ولكن أعمل في حقل الثقافة العربية بالمعنى التقني والاختصاصي ،وأكتب باللغة العربية ، بمعنى ما أنتمي إلى الثقافة العربية بوصفي كاتبا أكتب باللغة العربية وباحثا يهتم بالشأن العربي ،أيضاً أستقل عن هذا الفضاء بوصفي حاملا لهمٍّ مختلف إلى حد ما عن هموم الثقافة العربية ،  فهمومي , كما تعلمين, هي أشمل من حصرها ضمن نطاق الثقافة والقضايا القومية العربية . أنا أقرأ الثقافة هنا من موقعي ككردي ، ومن موقع مختلف دون أن أستقل تماما عن الفضاء الاجتماعي والسياسي لهذه الثقافة ، و هذا الدور يسمى عادة في اصطلاح النقد المسرحي بالتبعيد  البريشتي ، أن تكون ممثلا ومتفرجا في نفس الوقت .

 

-   ذكرت بأنك قرأت الفكر العربي من الداخل ومن الخارج أيضاً , كمثقف كردي ومثقف تعمل في حقل الثقافة العربية ،تحدثت عن رؤىوآراء الفكر العربي عن الآخر (الكردي) ،في حين أنك كمثقف كردي أهملت هذا (الآخر) ولم تتحدث عن رؤاه وآرائه، أو ردة فعله تجاه هذا الفكر الذي حاول ويحاول مسخه وطمس هويته بشتى الوسائل؟؟؟

  

      تعنين ب(الآخر) هنا وقد غدا (النحن) في هذا السياق, ثمة تبادل في الأدوار عند هذا المستوى.  يمكنك أن تعدّي قراءتي للفكر العربي بمثابة ردة فعل تجاه الآخر ,تجاه هذا الفكر المهيمن والسائد ، لكن بطريقة سالبة على نحو مختلف، بمعنى أنا أؤكد ذاتي من خلال قراءتي النقدية للآخر، من خلال رصدي للآخروسلوكه الثقافي نحوي . فأنا أثبت ذاتي بمعنى من المعاني عبر دحضي لمقولات الآخر وتصوراته السائدة عني كذات جمعية . ومن خلال نفي مفاهيمه الأيديولوجية  التي تسعى دائما إلى الطغيان والهيمنة على قاعدة تغييب وإقصاء حقيقتي الأنطولوجية والإنسانية عموماً وتزييفها.إن مراجعتي لآراء وتصورات هذا الآخرتأتي في هذا السياق  بوصفها طرحاً جديداً ، وبمثابة قراءة  من موقع الأنا,  من موقع إعادة إنتاج لذاتي ثقافياً وسياسياً  بإزاء موقف الآخر . بهذا المعنى هي قراءة تخص الأنا (نحن) ، أي الذات الجمعية . إن قرءاتي لاتنفي الآخر, وبخلاف طريقته المعهودة هي قراءة تؤسس لعلاقة تواصلية جديدة مع الآخر هي في طبيعتها علاقة ندّية تقول ، بانني قادر على أن أماثلك في الجدارة الإنسانية و في الهوية ، وفي الكفاءة العقلية   والأخلاقية . المبدأ هنا مبدأ تنويري ، مبدأ ديكارتي- كانطي ، والمبدأ يقول العقل والجوهر الإنساني هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس . بقول آخر ، كما انتم قادرون على أن تطرحوا خطابا تبررون وجودكم به أو تبررون هيمنتكم ، فانا أيضا أستطيع أن أطرح خطابا مضاداً  أو موازياً، ليس من موقع إلغائكم أو نفيكم ، لكن من موقع إثبات نديتي لكم ومساواتي بكم , فأنا أرفض التصورات القائمة عني , التي تبرر العلاقة غير المتكافئة بيني وبينكم. وبتعبير آخر , يمكنك أن تعدّ هذا السلوك إشهاراً لحضور الأنا وإثباتاً بمواجهة تغييب الآخر له وتهميشه. إنه نوع من ممارسة الحرية والسلطة على تخوم السلطة الواقعية والسياسية, التي تدفع بأناك على الهامش , هي سلطة المعرفة التي تنزع إلى فرض ذاتها في مقدمة المشهد.

 

    -  وبرأيك إلى أي مدى نجحت في ذلك ؟

 

    هذا الحكم هو من شأن القارىء.

 

-  ينقسم قراء كتابك إلى قسمين ،قسم من الكتاب والصحفيين والمثقفين الكرد يشاطرونك الرأي ويعتبرونه عملا أكاديميا ذا قيمة علمية كبيرة ( حسب ما كتب في الصحف العربية ومواقع الانترنيت)  والقسم الآخر من المثقفين والصحفيين العرب يعتبرون كتابك ليس ذا قيمة تذكر وأنك لم تأت بشيْ جديد ، وعنوان الكتاب يختلف عن المضمون ، كل هذه الآراء التي ذكرتها  مطروحة من قبل المثقفين العرب منذ وقت طويل ، فما رأيك في هذه الآراء ، وكيف ترد على هذه الاتهامات ؟

 

         هي ليست اتهامات بمقدار ماهي أوهام أيديولوجية وهذايانات قوموية .إن جلّ ما أثار حفيظة هؤلاء يتمثل في احتمال أن يكون هنالك كوردي يستطيع أن يقرأ بجدارة الفكر العربي وخطابه الأيديولوجي . أنتم تلاحظون أن  القوميين العرب لا تثار حفيظتهم كثيرًا لو أن مستشرقا غربيا من الدرجة الأخيرة وضع كتابا بهذه الأهمية عن الفكر العربي ، بل هم على استعداد كامل للتصفيق والتهليل له ، لكن حينما يتعلق بقراءة مثقف كوردي ، هم يصادرون عليه هذا الحق لأنهم لا يتعاطون مع الكوردي من موقع الندّية ، ولا يقرّون بكفاءته  العلمية والأخلاقية ، أي المعرفية والإنسانية لهذه القراءة . إنها ثقافة منبثقة عن ذهنية الضحية التي ترغب في أن تمارس دور جلاديها في القمع. لهذا السبب توقعت أن تثير قراءتي حفيظة هؤلاء وأن تكون ردة فعلهم مبالغ فيها إزاء الكتاب والكاتب ، في النهاية هي تجربة أولى بمعنى من المعاني ، وتكاد تكون مقاربة أولية للفكر والخطاب القومي العربي.

 

-        في أغلب ما كتبت في الفصل الأول من الكتاب وحتى في بعض الحوارات , تركز على جنوب كردستان( أي إقليم كوردستان المحرر) ، ألا ترى بأنك تختزل القضية الكردية في جنوب كردستان فقط ؟ ماذا عن الأجزاء الأخرى ؟

 

        أنا لا اختزل القضية القومية للكورد في كوردستان العراق ، القضية الكوردية هي  متشظية في أبعادها المعروفة ، لكن كوردستان العراق تقدم لنا نموذجا مختزلاً. فمن جانب أول تعدّ نموذجاً يختزل في ذاته كل شروط ولاعقلانية الإضطهاد الذي مورس تاريخياً بحق الكورد ، ومن جانب آخر أنا أتعاطى مع الحدث الكوردي في بُعده العربي . وأخيراً , من وجهة نظر معرفية ومنهجية أنا أتعاطى مع النص العربي في اشتماله علىالحدث السياسي والثقافي الكردي، من هنا العينة التاريخية الممتازة لهذه الدراسة  هي القضية الكردية في العراق . و قد كان صدى الحدث الكوردي في العراق  على الدوام  الأكثر حضورا وطغيانا ، لأجل ذلك كانت العينة الدراسية الواجب اتخاذها من هذا الموقع هي المسألة القومية للكورد في كوردستان العراق .

 

- تطرقت في موضوع القضية الكردية إلى  مفهوم الأقلية ، فما هو تعريفك لمصطلح الأقلية؟؟ وهل يمكن اعتبار شعبا يعيش على أرضه وله تاريخ وتراث ولغة و يملك كل مقومات الأمة ، أي يملك التاريخ والجغرافيا , أن يعدّ أقلية؟؟

   

        يشير مفهوم الأقلية في معاجم علم الاجتماع السياسي ، إلى كل جماعة عرقية لا تنتظم في مكانها الأصلي ،في أرضها الأصلية لكن تقيم نسقا من العلاقات الثقافية والاجتماعية على جغرافيا ليست قومية, المكان المرحعي للجماعة العرقية أو الثقافية لا وجود له بوجود الأقلية القومية . مثلا نتحدث عن الأقلية الأرمنية في سوريا أو الأقلية الشركسية في مصر ، أو الأقليات المهاجرة إلى أوربا هذه تسمى أقليات قومية تنطوي على خصوصية اجتماعية وثقافية دون أن تكون سياسية بصورة مباشرة. إن مصطلح (الأقلية) ومقابله (الأكثرية) لا يحددان الطبيعة النوعية والحقوق السياسية لجماعة ما, أنهما مصطلحان يتعلقان بالكم, لكننا حينما نتحدث عن شعب ما نقصد به أية جماعة ذا هوية قومية وخصوصية ثقافية تقيم على أرضها تاريخياً, بصرف النظر عن عددها. لقد ارتبطت المسألة القومية لدى جميع الشعوب تاريخياً بمسألة الأرض التي يطمحون إلى إقامة وطنهم القومي عليه وتجسيد ذاتهم القومية سياسياً في المكان الذي ارتبطوا به تاريخياً وجغرافياً.   لكن عندما يتحدثون عن الكورد  في العراق بوصفهم أقلية إنما يريدون بذلك أن يميعوا الحقيقة القومية والسياسية للمشكلة الكوردية لا بوصفها مشكلة جماعة قومية ( مشكلة شعب )- ومن ثم يهدفون إلى تجريدها من بعدها النوعي السياسي- وإنما بعدّها مشكلة أفراد يخضعون للإحصاء الكمي ,     بهذا المعنى يختزل هؤلاء السياسي في الإحصاء الكمي بتلك الطريقة التي تبدو للوهلة الأولى ليبرالية,  والحق أن الأيديولوجية الليبرالية في صيغها البدائية والمتخلفة جداً لاتقرّ بحقوق الجماعات وإنما تعترف فقط بوجود حقوق للأفراد بصرف النظر عن اختلاف هوياتهم  . القضية القومية للكورد لا تختزل بهذا الشكل ، القضية هي قضية شعب وأرض , إنها قضية حقوق سياسية لجماعة قومية مختلفة , وإذا ما أدركنا أن حقوق الإنسان الكوردي الطبيعية كانت  مستلبة على الدوام فذلك يعود أصلا إلى انتمائه لجماعة قومية مهمشة تاريخياً ومقهورة سياسياً ومستعبدة . والتعبير عن حقوق الكورد بوصفها حقوق أقلية  هي طريقة مضللة وملتوية للهروب من الاستحقاقات السياسية للمسألة الكوردية.

 

 -  إذن بهذا المعنى لايمكن اعتبار الكورد أقلية قومية في الدول التي تقاسمت كردستان ؟

 

   نعم بهذا المعنى ليسوا أقلية ، فالأقلية هي كل جماعة قومية تعيش في أرض لا تخصها . الحق  أن مفهوم الأقلية- كما أسلفت القول- هو مفهوم ملتبس ومضلل ، وعلى الدوام كانت السلطات والإعلام العربي يستخدم هذا المفهوم لتحقيق مآربه ولقلب الغاية من المبدأ الديمقراطي القائل بخضوع الأقلية لإرادة الأكثرية على نحو مضاد يؤول إلى سحق المجتمع كله ولجمه .

 

- برأيك كيف السبيل لحل القضية الكوردية ؟ هل هو الاندماج الذي يراه البعض ممن حاورتهم ؟؟ أم الاستقلال؟ أم ماذا ؟

   

    هناك عنصر موضوعي جديد ، يتمثل في البعد الدولي ينبغي ألا نقلل من أهميته لدى الحديث عن مستقبل القضية القومية للكورد عموماً. ثم أن الشرط التاريخي والحضاري الذي نشأت فيه الدول والكيانات القومية لم يعدّ حاسماً وفاعلاً بصورة قوية كما كان. من الناحية الأخلاقية والسياسية ، للكورد الحق في تقرير مصيرهم مثلهم في ذلك  مثل أي شعب آخر ، ولهم الحق كله في أن يشكلوا دولة مستقلة موحدة بكل المقاييس القومية . لكن السؤال الواجب طرحه هو, هل هذا المطلب الأخلاقي والسياسي المشروع ممكن التحقيق ؟ هذا هوالأمر الجوهري في الموضوع . هناك معطيات موضوعية لنشوء نظام الدول والكيانات القومية. فالدولة القومية , في شكلها الكلاسيكي الذي نشأت فيه خلال القرن التاسع عشر ، انتفت الآن بكل المقاييس. وليس من الضرورة أن يكون حق تقرير المصيرممثلاً فقط بنشوء دولة قومية لها طابع قومي خالص ، فمن بين عشرات الدول ( أكثر من 150 دولة منتمية إلى الأمم المتحدة ) ليس هناك إلا عدد محدد من الدول التي تتمتع بهذه الخصوصية، أما بقية الدول فكلها دول متعددة القوميات ، ولا تشكو القوميات فيها من أي انتقاص لحقوقها القومية أو لدورها  . وأخيراً نحن نرى في يومنا هذا الميل العارم لنشوء الكيانات الأممية ذي الهويات المتنوعة , وهذه الحركة تتنافى مع النزوع القومي نحو الانغلاق والتقوقع حول الذات . إن واقع الأمة الكوردية هو أنها أمة مقسمة لم تتمكن خلال تاريخها الطويل أن تجسد ذاتها ووحدتها في  دولة مستقلة تعبر عن هويتها القومية , وهذا الواقع هو شاذ بالمعنى التاريخي واستثنائي إلى حد ما . المعطى الموضوعي و الشرط العالمي القائم هو شرط يميل إلى إلغاء الحدود القومية والتمايزات والحدود السياسية بين  الجماعات القائمة ، الشرط الآخرهو شرط خاص بوضع الأمة الكوردية في المنطقة ، وهو شرط إقليمي إلى حد كبير ، يوميء بصورة مباشرة إلى الأوقيانوس السياسي الذي يتعارض مصالحه مع مصالح أي كيان كردي ذا منحى استقلالي ، لهذا يبدو صعبا من وجهات نظر عديدة , ومن وجهة نظر التوازنات الدولية إعلان دولة كردية في الوقت الراهن. لكن بالإمكان, وضمن الشروط  الموضوعية القائمة ,الحديث عن حل جزئي للقضية الكوردية في إطار الدول المعنية بالذات , ويظل الحل الشامل والنهائي هو الحل التاريخي المرهون بنشوء دولة قومية واحدة  أو مجتمع قومي موحد. ولعلي أنساق هنا مع تكهناتي الشخصية التي قد لاتستجيب للرغبات الأيديولوجية لدى البعض بصورة مباشرة. فالمجتمع القومي الكوردي ممكن التوحد في ضوء المتغيرات الجارية الآن بشرط إلغاء الكيانات السياسية القائمة التي تتقاسم سماء الكوردي وهواءه  , أعني الكيانات التي انبثقت بأثر التسويات الدولية التي أعقبت الحربين الكونيتين في القرن الفائت . الكيان الكوردي المحتمل لن ينشأ على أساس دحر الأخيرة بقدر ماسيكون بانخراط الأخيرة في منظومات سياسية واجتماعية أشمل وأعم , تتخطى شكلها القومي القائم .

 

- هل  تعني الاندماج كما هو رأي بعض ممن حاورتهم في كتابك ؟

    

       أنا حذر من استخدام  كلمة الاندماج ، كلمة الاندماج كما هي شائعة ومتداولة يشتم منها رائحة إلغاء الهوية القومية ومحوها  لصالح التماهي مع الهويات الأكثر هيمنة أو الأغلبية وهذا مرفوض . ولكن يمكن للكورد التعايش مع القوميات والأمم والثقافات المتاخمة لهم  بتكافؤ وندّية في الحقوق والواجبات ، كأن تكون اللغة الكوردية معادلة للغة العربية,  في العراق مثلا, ومكافئة لها بمعنييها الحقوقي والثقافي .كأن يكون للكورد الحق في التمثيل العادل في كافة المؤسسات . كأن تتخذ الدولة العراقية وحتى على المستوى الرمزي شكلا أعم يعبر عن الكل, فلايمكن لها أن تكتسب شكلا قوميا محددا دون آخر, عليها أن تتمثل كل الهويات الثقافية لأنها لن تعود دولة نمطية وحيدة الطابع والهوية ، إنها دولة متعددة الهوية تاريخياً وعليها أن تترجم ذلك سياسياً .وعلى هذه التعددية أن تجد تجسيدها وتعيينها في شكل الدولة العراقية القادم. كذلك الأمر على مستوى رموز العلم والنشيد الوطني واللغة ...الخ بهذا المعنى يمكن للكورد أن يحددوا مصيرهم بحرية ضمن هذا الشرط التاريخي ، كأن  يتشاركوا مع غيرهم في نطاق كيان سياسي متحد , وليس اتحادي كما هو شائع , على أساس كيانات فدرالية ذات طابع قومي تعددي يمارس فيه الكورد دورهم وهويتهم كجماعة قومية متمايزة عن العرب وفي نفس الوقت متفاعلة معهم .

 

-  على ذكر الفدرالية ، الخيار الفدرالي المطروح الآن هو فدرالية جغرافية ، حيث ترفض الكيانات السياسية العربية الموجودة على الساحة العراقية الفدرالية القومية  ، فما هو طبيعة  الاختلاف بين الاثنين ؟

 

      أنا لا أؤمن , ولا أعلم, بوجود نظام سياسي أو كيان قائم على أساس جغرافي لسبب بسيط هو أن الجغرافيا لا تمثل بحد ذاتها وحدة اجتماعية مميزة يمكن أن يؤسس عليها كيان أو شكل سياسي للحكم أو الاجتماع الإنساني ، فالجغرافيا مفهوم طبيعي لا يصلح أن يكون مبدأ سياسياً من دون الحضور الإنساني, وبهذا الحسبان فإن إقحامه في هذا السياق هو بقصد التضليل أو القفز على حقيقة المشكلة. . علم الاجتماع السياسي و علم السياسية بالذات ، يؤسس مفاهيمه وتصوراته على الكينونة البشرية ، على المجتمع و على الاجتماع الإنساني ، الاجتماع الإنساني هو الوحدة الممتازة التي يمكن أن يؤسس عليها أي كيان أو نظام سياسي ،ويؤسس عليه مفهوم الحق. بالمعنى السابق يمكننا الحديث عن جغرافية واسعة كجغرافية بلاد الرافدين أو جغرافية بلاد الشام دون أن تشكل مبدأ للتأسيس السياسي ونحن حينما نتحدث عن النظام الفيدرالي ونقرّ به  إنما نبحث  بمعنى من المعاني عن حل سياسي لقضية جماعة إنسانية لها بعد قومي. فالفيدرالية الجغرافية بالمعنى المتداول الآن لا تصلح أن تكون وحدة نظرية سياسية أو اجتماعية للخطاب السياسي .إنه اصطلاح فضفاض يراد به في حقيقة الأمر إفراغ الخطاب السياسي للقضية الكوردية من بعده الجغرافي أو تجريد جغرافية كوردستان من طابعها السياسي وفي الحالتين يراد بالفدرالية الجغرافية قتل الجغرافية السياسية للقضية الكوردية , لتستحيل القضية القومية للكورد إلى مسألة حقوق إنسان وحقوق أقلية , ولعل هذا الجانب هو أخطر ما في هذه اللعبة السياسية غير المتقنة.

    علم الاجتماع السياسي- كما أسلفت- يؤسس مفاهيمه على الاجتماع الإنساني في تجليه السياسي ، الاجتماع الإنساني في تعبيره السياسي ، بقول آخر’ إن جماعة عرقية ما يمكنها بحكم خصوصيتها ومصلحتها الاقتصادية أن تشكل أو تتخذ شكلا سياسيا مطابقا. لكن ليس هناك ما يثبت لي أن الجغرافيا بحد ذاتها يمكن أن تحدد شكلا سياسيا وتعدّ قاعدة لمفهوم الحق . كانت أوربا في وقت من الأوقات كجغرافية ،تضم نظاما سياسيا واحداً ، الآن اختلف الأمر تعددت الأنظمة السياسية,  في مرحلة تالية ستتوحد أوربا. هناك بقع وتضاريس جغرافية في العالم موحدة ومنسجمة لكنها تنطوي على التعددية في النظم السياسية . ما هو مطروح لايصلح لحل القضية الكوردية ، هو حل تسووي  مرتبط بمأزق, هو حل يراد به أن يتخطى المأزق بالتعالي عليه وبإغفال جوهر المشكلة . الصحيح هو أن تقوم فدرالية على أساس الاختيار الحر لشعبين ، الجغرافيا لا تقرر ولا تحدد الخيارات ، الجغرافيا ليست لديها خيارات سياسية ، الجماعة البشرية لديها خيارات سياسية ومقاصد من النوع ذاته  تجسدها في الجغرافية المطبوعة بطابعها الخاص ، الكورد يريدون البقاء في نطاق الدولة العراقية ، هم إذن يقررون شكل الفيدرالية .

 

- هناك آراء عربية نسمعها من خلال القنوات الإعلامية العربية ، بان خيار الفدرالية يجب أن يتم التصويت عليه من قبل الشعب العراقي ، طبعا هذا بعد أن يتم إقراره في الدستور ، فيحق للآخر (العرب) رفضه وعدم القبول به ، فماذا تقول بهذا الصدد؟

 

- المبدأ لديّ هو حق تقرير المصير لكل جماعة بشرية , وهذا المبدأ لايكترث بهذا الهراء الإعلامي  والسياسي الذي لا يستند على أي منطق سياسي أو أخلاقي أو حقوقي. فإذا رفض العرب الشكل السياسي الذي يقترحه الكورد من موقع رغبتهم في المساواة , فهذا يعني أن العرب يرفضون التعايش مع الكورد على أسس سليمة تراعي مصلحة الطرفين , وبهذا الرفض إنما يدفعون الكورد باتجاه خيار وحيد يضمن حريتهم ومساواتهم مع ذاتهم وهذا الخيار هو الاستقلال بصرف النظر عن نتائجه ز

 

 -  عفوا لا أقصد وجهة نظرك الشخصية ، بل من وجهة نظر القانون الدستوري والقانون الدولي ؟

   

  -    نعم من وجهة النظر القانونية. إن جميع مبادىء ولوائح حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، تقر بأن لكل جماعة قومية  الحق في تقرير مصيرها وتجسيد هذا المصير في شكل سياسي يطابق مصالحها ، وخيار الفدرالية هو خيار كوردي بالدرجة الأولى ، وليس خيارا عربيا. إذ طالما وأن العرب يلحون على بقاء الكورد شركاء لهم في هذا الكيان السياسي , فمن حق الكورد أن يضمنوا الشكل السياسي والقانوني المناسب للتعايش المشترك, بحيث لا يعود ممكناً الرجوع إلى التجارب العنصرية والقهرية السابقة مجدداً. فإذا رفضت الأغلبية العربية الشكل الاتحادي الذي يطالب به الكورد ، فمن حق الكورد بالمقابل أن يستقلوا بأنفسهم ، أما إذا قبلوا به أو شاؤوا أن يحافظوا على العراق ككيان سياسي مشترك قائم, فعليهم الاستجابة للشكل الذي يناسب ويضمن عدالة التعايش بينهم وبين الكورد .

 

-       في الفصل الثاني من الكتاب الذي يتضمن الحوارات مع نخبة من المثقفين العرب ، تركز في حوارك مع  جاد الكريم الجباعي على مسالة الحوار ، حوار الكرد والعرب، هل تعتقد بان التأهيل لهذا الحوار ممكن ، رغم أن العرب يعتبروننا عملاء للغرب وإسرائيل أو ورم خبيث أو خنجر في خاصرة الامة العربية ...الخ . علما بان الحوار يحتاج إلى أرضية تستند عليها ويكون الطرفين على أتم الاستعداد لإجراء هذا الحوار ، فالحوار لا يكون إلا بين الأنداد كما تقول ؟

 

-  ليس جميع العرب من القائلين بهذا الرأي .ثم ليس لي أية منفعة سياسية أو ثقافية في الاهتمام بكل هذا القيح الشوفيني المنتشر في وسائل الإعلام العروبي ومناقشته في هذا السياق.

 

-   بل هذا هو رأي الكُتاب والمثقفين والصحفيين ، الساسة ، الشارع العربي......الخ

  

    للأسف يشارك في هذا الرأي الخطاب الإعلامي الرسمي السائد نسبة هامة من المجتمع المدني العربي  والنخب المثقفة . لكني  أعتقد بأن المجتمع العراقي ، بما عاناه وما مر به من تجارب قهرية قد أدرك الآن أن الموقف ليس على هذا النحو الذي سوقه ذهنية شوفينية تشكو من رهاب (فوبيا) أسمه كوردي، وبات يعي أن من مصلحته التعايش مع الكورد على قدم  المساواة. لكني بالمقابل أرفض الشكل التبسيطي للحوار ، وأرفض هذا الشكل الدعائي السائد للحوار. أنا أتطلع إلى حوار قائم على مبدأ التعايش المشترك , الذي يهدف إلى خلق فضاء تواصلي بين الثقافات والجماعات البشرية بصرف النظر عن حجم الأطراف ووزنها وثقلها البشري .

         لا ينبغي للحوار أن يتأسس على فكرة الغالب والمغلوب ، الأقلية أو الأغلبية ، الحوار يتأسس على مبدأ الإقرار بجدارة كل ثقافة وتكافؤها مع الأخرى ، وبأحقيتها في أن تقوم بهذا الدور. من هذا الموقع نستطيع أن نتخيل الفضاء التواصلي الذي سينشأ عن التفاعل الثقافي بين العرب والكورد والقوميات الأخرى ، لا ريب في أنه سيكون فضاءًا مشتركاً ولمصلحة الطرفين . حين يبدو المواطن العربي في العراق معنيًا بالثقافة والهم السياسي الكورديين و بالمقدار نفسه الذي يبدو معه الكوردي معنيًا بالثقافة والسياسية العربية حينئذ فقط يمكن الحديث عن تفاعل ثقافي حقيقي بين الطرفين . أما أن ينساق الكوردي بدوافع دينية وأيديولوجيةإلى التغني بالثقافة العربية وبالتاريخ العربي في حين ينظر العربي إليه من هذا الموقع نظرة استعلائية على أنه مجرد تابع له ثقافياً (موالٍ ثقافياً) وعلى أنه الممثل الأرقى والأصفى للدين السائد والثقافة السائدة ، فهذه لا تؤسس لعدالة ولاتخلق تفاعلاً أوحواراً ثقافياً ، هذه تكرس الغالب علاقة تبعية ، وتؤسس لهيمنة ثقافية وأيديولوجية على حساب الثقافة الكوردية وغيرها, تقصيها وتغيبها وتحول دون تناميها وانتشارها بهذا المعنى نستطيع أن نتحدث عن المهام السياسية والتربوية المباشرة  للدولة العراقية , وهي ألاتكون دولة ذات طابع ديني ، وألا تتبنى دينا رسميًا لها دون غيره ، فهي عندما تتبنى دينا رسميا ، يكون هذا الدين في بعده الثقافي والأيديولوجي, وليس في بعده المقدس أو الغيبي فحسب, ملزمًا للكوردي ولغيره ممن لايمكن عدّهم من القومية العربية ، أعني في بعده الثقافي والأيديولوجي الدنيوي لأنه سيصبح دين القومية السائدة والثقافة السائدة.وهذا ما سيمنح امتيازاً لثقافة على حساب أخرى   

                                                                                                                                                                                                                      

 واخيرا لم يبقى سوى ان نشكر الاستاذ سربست على هذا الحوار

  شكرا لكم                                                                                                      

 

            =======