سر إقبال الأتراك على كتاب (كفاحي ) لأدولف هتلر 

         د. جبار قادر

   

    

أثارت جريدة (أكشام) التركية بنشرها لخبر إقبال القراء الترك على إقتناء كتاب (كفاحي) للزعيم النازي الألماني هتلر إهتمام الكثيرين ليس في تركيا فحسب بل و في أوساط السياسيين و المثقفين في العديد من البلدان الأوروبية و في الولايات المتحدة الأمريكية . لقد أشارت ( أكشام) الى مبيعات الكتاب التي بلغت 31 ألف نسخة خلال 15 يوما فقط ، الأمر الذي يعني محافظة (كفاحي ) على موقعه ضمن قائمة الكتب العشرة الأكثر مبيعا في البلاد للشهر الثاني على التوالي .

إعتبر البعض هذا الأقبال على كتاب أحد أكثر الزعماء دموية في تأريخ البشرية فضيحة للطبقة السياسية الحاكمة في تركيا . و تساءلت صحف أوروبية عديدة عن الحكمة في قبول بلد في الأتحاد الأوروبي يظهر مواطنوه كل هذا الأهتمام بطروحات دكتاتور و طاغية تسبب بتدمير نصف القارة الأوروبية و موت عشرات الملايين من البشر و قام بجرائم كبرى لا يزال الشعب الألماني يدفع ثمنها . المعروف أن كتاب هتلر ممنوع من التداول في ألمانيا و العديد من الدول الأوروبية الأخرى بسبب مضامينه العنصرية و المثيرة للحقد و الكراهية بين الشعوب .

من المؤسف حقا أن الكثير من الطروحات العنصرية المقيتة و تلك التي تثير الكراهية و العداء القومي و الديني و المذهبي بين الناس ، متداولة على نطاق واسع في تركيا و بلدان الشرق الأوسط الأخرى . و تفتقر تلك البلدان الى قوانين تمنع تداول تلك الأفكار و تعاقب المروجين لها كما هو الحال في الدول المتحضرة . الأنكى من ذلك أن الكثير من تلك الدول و من بينها تركيا تروج لتلك الأفكار و الطروحات في صحافتها و إصدارتها . و يتضمن التراث الشعبي التركي كما كبيرا من الأمثال التي تحط من شأن الآخرين و للعرب حصة الأسد من تلكم الأمثال . و الأغرب من هذا و ذاك هو موقف الكثير من أبناء تلك المنطقة من الذين يعيشون لسنين طويلة في مجتمعات الغرب  الديموقراطية و لكنهم لا يتوانون عن ترديد مفاهيم في غاية العنصرية و الطائفية بحق الشعوب و الجماعات الأخرى و منهم من كرس قلمه للحط من شأن الآخرين . و قد تميز العراقيون من الذين تشبعوا بطروحات البعث بسلوك هذا المنهج العنصري في السنوات الأخيرة و قد بزوا الآخرين من أبناء جلدتهم على هذا الطريق . ونظرة بسيطة الى الأعلام العربي المرئي أو المكتوب تقنع الأنسان بالكم الهائل من المفاهيم العنصرية و المثيرة للحقد القومي و الطائفي التي يرددها هذا الأعلام على مدار الساعة .  

عود الى موضوع كتاب هتلر . حاول الكثيرون البحث عن تفسيرات مقبولة لهذه التوجه المناقض لمسار البشرية نحو الأنفتاح و قبول الآخر و الديموقراطية . و تراوحت التحليلات التركية لهذه الظاهرة بين الدعوة الى عدم تحميل الأمور أكثر مما تحتمل و بين ربط هذا الأقبال من لدن القراء على كتاب هتلر بتنامي الكراهية ضد الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل في تركيا . من المؤكد أن الأحداث التي رافقت الحرب على العراق و موقف الحكومة التركية منها و خسارتها بسبب ذلك لجميع الأوراق التي كانت تمكنها من التأثير على التطورات الداخلية في البلد المجاور و بخاصة في كوردستان العراق،جرى تقويمها على أنها مؤامرة أمريكية ضد المصالح التركية . و حاولت حكومة حزب العدالة و التنمية أن تشاكس السياسة الأمريكية في المنطقة من خلال التنسيق و التشاور مع إيران و سوريا . إلا أنها أدركت و بسرعة بأن هذا الأمر ربما سيكلفها الكثير لذلك تخلت عنه . وحاولت أن تعوض خسارتها على جبهة العراق من خلال إحراز شئ من التقدم على جبهة الأتحاد الأوروبي . ولكن حتى المكاسب القليلة التي حققتها تركيا على صعيد علاقاتها بالأتحاد الأوروبي يبدو أنها لا تقف على أرضية صلبة . فقد تنامت الأنتقادات الأوروبية لتركيا في العديد من الملفات و بخاصة تلك المتعلقة بحقوق الأنسان و الأقليات و حرية الرأي و التنظيم و غيرها . كما أن قمع الشرطة التركية للمظاهرة النسائية السلمية في الثامن من آذار الحالي و بتلك الطريقة الوحشية كانت مناسبة أخرى للتشكيك في قدرة هذه البلاد على الأيفاء بإلتزامتاها تجاه مطالب الأتحاد الأوروبي .

يبدو أن السياسات الحكومية التركية التي إتسمت بالتردد أثارت نقمة أوساط واسعة من المواطنين الترك الذين لا يجدون تفسيرات مقبولة لها .  كما أن القاعدة الشعبية التي ترتكز عليها حكومة حزب العدالة و التنمية ذي الخلفية الأسلامية تنظر بعين الريبة و التوجس الى الغرب و خطط أمريكا في المنطقة ، فضلا عن التعاطف الشعبي الطبيعي مع الفلسطينيين .

وكان لوسائل الأعلام التركية دورا كبيرا في خلق الأجواء المناهضة للغرب عموما و الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص في البلاد . فقد كانت تغطيتها لأحداث الحرب في العراق و كذلك التطورات السياسية التي أعقبتها تفتقر الى المهنية و الموضوعية بسبب تخوفها من ما كانت تسميها بسيطرة الشيعة و الكرد على الأوضاع في البلد المجاور . و هاتان الفئتان لا تدخلان بحكم التجربة التاريخية المريرة ضمن قائمة أصدقاء تركيا. ولعل محاولة إثارة الهلع في نفوس الأتراك من قيام دولة كردية في كوردستان العراق و من ثم ضياع كوردستان التركية ضمن مؤامرة أمريكية مزعومة هي التي كانت وراء تنامي الحقد على الولايات المتحدة الأمريكية .

كما أن هذا الأعلام ساهم في تنامي حالة العداء ضد الأتحاد الأوروبي في أوساط القوميين الترك من خلال تغطيته مفاوضات العضوية بين الطرفين بطريقة مثيرة لمشاعر الأتراك من خلال حديثه المتواصل عن مؤمرات أوروبية ضد وحدة تركيا و تراجع الأتحاد عن وعوده دون الأشارة الى فشل تركيا في القيام بتنفيذ إلتزاماتها وفق المعايير المعمول بها في الأتحاد الأوروبي .

و هناك عنصر آخر في الأمر لم يجري التركيز عليه كثيرا و نعني به العلاقة المتشنجة بين حكومة أردوغان و العسكر . ربما تفسر تلك العلاقة جانبا من المناخ السياسي السائد في تركيا ، فحكومة حزب العدالة و التنمية المذعورة من إثارة الجنرالات تتردد في الأعلان عن رأيها بصراحة و شفافية إزاء الكثير من القضايا ، لذلك تلجأ الى الأعلام للتعبير عن مواقفها و تغطية عجزها أمام الجيش و ذلك للحفاظ على البقية الباقية من دعم الأوساط الشعبية التي أوصلتها الى الحكم .

و أدركت الولايات المتحدة الأمريكية هذه اللعبة الساذجة مبكرا لذلك ركزت في إنتقاداتها لحكومة أردوغان على صحافة الحزب الحاكم و حملتها مسؤولية تنامي العداء لأمريكا . لقد أشارت وزيرة الخارجية الأمريكية و السفير الأمريكي في أنقرة الى ذلك بصراحة في اللقاءات الثنائية بين الطرفين و كذلك في اللقاءات الصحفية التي أجريت مع المسؤولين الأمريكيين .

كما أشارت بعض الصحف العالمية الى أن إقبال القراء الأتراك على كتاب ( كفاحي ) بهذا الزخم يشير الى تنامي النزعة القومية المتطرفة في البلاد . ويبد أنها أغفلت في إشاراتها هذه حقيقة سيادة الفكر القومي التركي بأشد صوره تطرفا و عنصرية على مدى قرن كامل من الزمان بدءا من حكم الأتحاديين في العقد الأول من القرن العشرين و مرورا بعهد الأستبداد الكمالي منذ العشرينات و حتى بداية الخمسينات و من ثم أثناء حكم الجنرالات على مدى العقود الثلاث التي أعقبت إنقلابهم العسكري الأول في مايس من عام 1960 . بطبيعة الحال لا توجد شعوب تمجد التطرف القومي و قمع الآخرين و لكن الثقافة السياسية السائدة في تركيا على مدى عقود طويلة جعلت الفكر القومي المتطرف جزءا من الشخصية السياسية و الثقافية و الأجتماعية التركية . كما أن تمجيد المؤسسة العسكرية التركية على مدى قرون طويلة سواء في عهد السيطرة العثمانية التي إعتمدت في إستعبادها للشعوب و نهب ثرواتها على القوات العسكرية أو في العهد الكمالي الذي تأسس أصلا على ركام الأنتصارات التي حققها الجيش على قوات الأحتلال الأجنبية. من هنا فإن الوله التركي بالعسكريتاريا و أخبار الحروب و تركيع الآخرين لا حدود له . و يمكن أن يكون أحد دوافع هذا الأقبال على كتاب هتلر هو إشباع هذه الرغبة المكبوتة لدى التركي الذي يفتقر في عصرنا الحالي الى أدنى مبررات و مقومات إعلان الحروب على الآخرين. لقد فقد الجيش التركي آخر ساحات عرض عضلاته في جزيرة قبرص و في كوردستان العراق . 

لعل أكثر الجهات التي أصيبت بخيبة أمل كبيرة من هذا الأقبال التركي على كتاب ( كفاحي ) كان اللوبي اليهودي في أمريكا . فقد بذلت الجمعيات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية و على مدى سنوات طويلة جهودا كبيرة للدفاع عن تركيا و تسويق سياساتها في أوساط الرأي العام ضد محاولات جماعات الضغط اليونانية و الأرمنية و حتى الكردية خلال السنوات الأخيرة . وكان الموقف اليهودي هذا بمثابة رد للجميل للدولة التي تميزت بعلاقاتها الحميمة مع إسرائيل خلال العقود الخمسة الماضية .

وقد عبرت جهات عديدة عن إستيائها و إستغرابها لهذا الأقبال على كتاب تافه ملئ بالطروحات العنصرية و إثارة الكراهية. وقد أعلنت وزارة مالية حكومة بافاريا بإعتبارها وارثة حقوق المؤلف كون هتلر من مواليدها ، عن رفضها لطبع و توزيع الكتاب و دعت الحكومة الألمانية أنقرة الى منع نشر الكتاب . في عام 2015 فقط اي بعد مرور 70 عاما على موت هتلر يصبح بالأمكان طبع الكتاب دون أخذ الأذن من دار النشر أو الجهة صاحبة الحقوق . و أعلن في برلين بأن الحكومة الألمانية ستلجأ   الى الطرق القانونية لمحاسبة الجهة الناشرة للكتاب دون إذن رسمي من الجهة صاحبة الحق . و تجري مداولات في أروقة وزارة الخارجية التركية مع ألمانيا للخروج من هذا المأزق .

تشير أكثر التوقعات تفاؤلا الى أن تركيا يمكن أن تصبح دولة عضوة في الأتحاد الأوروبي بعد عام 2015 إذا ما تمكنت من تنفيذ متطلبات العضوية خلال السنوات العشر القادمة. ومن المؤكد أنها ستنظم الى هذا التجمع بعد بلغاريا و رومانيا و كرواتيا و أوكرانيا و ربما روسيا و غيرها. ولعلها تتخلص خلال فترة المفاوضات مع الأتحاد الأوروبي من الأفكار و الطروحات العنصرية و لن تجد نفسها بحاجة الى طبع كتاب ( كفاحي ) من جديد .  

 

HOME