تــــــــأملات في المــــــــاركسية: لا وصفة واحدة للصيرورة التاريخية
د. فالح عبد الجبار

   

ان كانت هذه الاوراق تدين بالعرفان لأحد، فهي تدين بذلك، تحديدا، للاستاذ كريم مروة. له وحده يرجع الفضل في التفكير باعادة اصدار طبعة عربية جديدة لرأس المال. وله ايضا الفضل في عقد لقاء فكري عن مستقبل الاشتراكية، في بيروت عام 1996. هذان الحدثان كانا بمثابة المهماز للقيام ببعض الابحاث، واعادة التفكير في بعض الاسئلةوها نحن اليوم امام مطلب جديد: التفكير في عموم الماركسية، لا البكاء على طلل دَرَس. ومن جديد ايضا تأتي المبادرة من الاستاذ كريم مروة، الذي لا يكف عن القاء الاحجار في مياهنا الراكدة بعناد مشاكس، لايني يحفز ويحرك، فاتحا ابواب الاسئلة على مصاريعها. وانا هنا ادخل من كوة عسى ان ألحق بركب الاسئلة، في مسالكها الوعرة.
يقول ماركس، في مكان ما، ان طرح السؤال الصحيح هو نصف الجواب. وفي اعتقادي ان السؤال الاساس، هو الآتي:
ما النظرية الماركسية؟ قد يبدو السؤال نافلا، لكنه برأيي جوهري.
هناك اجابة جاهزة، جامعة، مانعة، تقول: ان الماركسية نظرية ثورية تتألف من 3 اقسام هي: المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية، والاشتراكية العلمية.الطبيعة والمجتمع والفكر نفسه.
هذا التقسيم المبسط، والشائع، الذي تربت عليه اجيال واجيال من الماركسيين، تقسيم اعتباطي، وزائف، حسب رأيي. اعرف ان هذا القول سيصدم الكثيرين، فهو حكم قطعي بامتياز.
الواقع ان هذا التقسيم الذي ثبت في الادبيات الماركسية السوفيتية عد بمنزلة المقدس. المادية التاريخية (حسب هذا التقسيم): هي تعميم للمنهج المادي على التاريخ. اما التاريخ فهو، حسب المفهوم المتداول، قائم على تشكيلات متعاقبة: المشاعية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية، والاشتراكية.
والاشتراكية العلمية: تنقسم بدورها الى الاقتصاد السياسي للرأسمالية، ثم الاقتصاد السياسي للاشتراكية، منمذجة في قوانين صارمة للانتقال، والتضاد، والتحول. والمادية الديالكتيكية – انها تقوم على اولوية المادة على الوعي، على شمولية التناقض الجدلي (الهيغلي)، وعلى ازواج من المقولات، المادة و الوعي، الجوهر والمظهر، الشكل والمحتوى، الكم والنوع، وهلم جرا.
قلت ان هذا التصوير للماركسية كحقول ثلاثة – فلسفة تاريخ، فلسفة معرفة، ثم اقتصاد سياسي للرأسمالية والاشتراكية، قدم بوصفه كلا معرفيا مكتملا. وقد ثبته الباحثون السوفييت في اقانيم شكلية، ثابتة لا فكاك منها.
الواقع ان هذا التقسيم (الثلاثي) مستمد من مقالة كتبها لينين (مصادر الماركسية الثلاثة) للموسوعة البريطانية
Encyclopaedia Britannicaللتعريف بالماركسية. وهو مقال مكثف ومبسط، مطروح للقارئ العام. ويقصد به توضيح مجالات اهتمام ماركس، وحصرها، قدر الامكان، في حقول محددة. اما ان ماركس كان ماديا، فلا مراء في ذلك. واما ان ماركس طرح نظرة فلسفية للتاريخ. فلا مراء في ذلك ايضا. لكنه لم يكتب دراسة للتاريخ. ولم يكن مؤرخا، ولا فيلسوف تاريخ (سآتي على هذه النقطة مرارا). واما ان ماركس كان ماديا وجدليا، في نظرية المعرفة، فلا مراء في ذلك. لكنه لم يكتب ولم يبحث في فلسفة المعرفة. هناك بالطبع اطروحاته الشهيرة عن فيورباخ (ستة اسطر)، وتعليقاته الشهيرة بشأن ديالكتيك هيغل (بضعة مقاطع). اما كتاب انجلز (الرد على روهرنغ) و"ديالكتيك الطبيعة" فهما تلخيصان لكتابي هيغل: المنطق Die Logic (المترجم الى اللغات كلها – الانجليزية مثلا، والعربية ايضا). وللقسم الاول من كتاب هيغل: فينومينولوجيا الروح (او العقل) او "تجليات العقل"، ان شئتم. وقسمه المتعلق بالطبيعة. وان قراءة الاصل الهيغلي، تغني عن هذين (انتي دوهرنغ وديالكتيك الطبيعة)، بل تكشف عن محدودية قراءة انجلز.
قلت ان التقسيم الثلاثي المبسط، للماركسية، على انها "مادية تاريخية" و"مادية ديالكتيكية" و"اشتراكية علمية"، تقسيم مبسط، وان تحويله الى مذهب، او منظومة، كان احد منابع تقويض الماركسية، وثلم حدّها النقدي.
النظرية الماركسية هي نظرية تحليل النظام الرأسمالي ونقده، ونظرية البحث عن الامكانات التاريخية لنقد وتجاوز الرأسمالية، بل ان هذا التحليل، انحصر، موضوعيا، في اوربا الغربية، وكرّس مادة ابحاثه للفترة من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر.
بنى ماركس النموذج النظري للرأسمالية وتناقضاته، معتبرا اياه نموذجا كونيا (شاملا) برغم ان الرأسمالية لم تكن في زمانه سوى جزيرة صغيرة وسط محيطات هائلة من انتاج سلعي (حرفي) صغير، وانتاج كفاف، ومشاعيات. اما اليوم فان الانتاج الصغير وانتاج الكفاف، ليسا سوى جزيرة صغيرة في محيط الرأسمالية المتلاطم. وهنا مكمن عبقرية ماركس: بناء نموذج نظري لظاهرة تاريخية (تشكيلة اجتماعية – اقتصادية) يستبق اكتمال ونضج هذه الظاهرة نفسها في الواقع.
ان تحليل ونقد الرأسمالية، والبحث عن امكانات تجاوزها تقوم انطلاقا من تطور الرأسمالية ذاتها، تطور قواها المنتجة، وتطور مؤسساتها الاجتماعية والثقافية، كنظام عالمي (وليس نظاماً محلياً داخل دولة) حدا معينا من التطور يتعذر عليها، بعده، الاسنمرار.
وبودي القول، هنا، ان مهمة نقد الرأسمالية، وتحليل اشكالها المتطورة، المتحولة باستمرار، والبحث عن سبل تجاوزها، مهمة راهنة. وهي اساس استمرار الماركسية ما بعد ماركس. ولكن كيف هي صورة الرأسمالية في النموذج النظري لماركس؟ او: ما هذا النموذج؟ ازعم بان الصورة النظرية التي نعرفها، اما مشوهة (النسخة السوفيتية الرسمية) واما ناقصة، كما تركها لنا ماركس.
لو عدنا الى خطط ماركس لكتابة "رأس المال" لوجدنا اجابة شافية، ومربكة. شافية لانها (اي الخطط) تقدم لنا البنية النظرية كما ارادها ماركس، ومربكة لأنها (أي الخطط) تكشف لنا عن ان ماركس لم يسعه، خلال حياته، انجاز هذا العمل النظري الجبار. وتركه مفتوحا. وهذا اروع جانب في نظرية ماركس، خلافا لرعب ستالين والستالينيين منه، حيث سعوا الى جعله مغلقا ناجزا، مكتملا، مكتفيا بذاته – على صورة الدكتاتور المغرور الذي يتصور نفسه مركز الكون، نهايته.
لنعد الى الصورة النظرية للرأسمالية كما تصورها ماركس، في هيئة مخطط، وكما اراد عرضها.
هناك عدة خطط لرأس المال، صيغت بين خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر. وقد استقرت اخيرا الى خطة رباعية (برغم ثلاثية هيغل!) وهي:
اولا – رأس المال.
– الانتاج ب – التداول. ج – وحدة الاثنين. د – العمل المأجور. هـ - الملكية العقارية. و – تاريخ نظريات "رأس المال").
ثانيا – الدولة.
ثالثا – السوق العالمي.
رابعا – التجارة الدولية.
اذا تذكرنا هذا التقسيم الرباعي، وهو حجر الزاوية في فهم نظرية ماركس، لخلصنا الى نتيجتين: النتيجة الاولى (بخصوص ماركس نفسه)، انه انجز البند الاول من العمل النظري. فرأس المال بمجلداته الثلاثة يغطي الفقرات من (أ) الى (هـ). والمجلد الرابع (تاريخ نظريات فائض القيمة) يغطي الفقرة هـ.
اما البنود ثانيا (الدولة) وثالثا (السوق العالمي) ورابعا (التجارة الدولية) فلم يقدم عنها سوى ملاحظات واشارات دقيقة ومذهلة (لما فيها من تنبؤات بشأن الشكل الدوري لنشوء الرأسمالية في بلدان زراعية، أي شكل انتشارها من بلد الى آخر)، لكنها ليست مبحوثة بذلك التقسيم العلمي الوارد في المجلدات الخاصة برأس المال.
اما النتيجة الثانية المترتبة على ذلك فهي ان النظام الرأسمالي يقوم على اربعة عناصر مترابطة عضويا، هي الرأسمال، والدولة، والسوق العالمي، والتجارة الدولية. فمعمار العالم، كما اشادته الرأسمالية، هو رباعي المرتكزات. انها تشكيلة كونية.
فالرأسمال، الذي ينمو في اطار قومي، يحتاج الى الدولة، ولا حياة له الا في ظلها وعبرها. وان جريان الاسواق، ونواظم التجارة الدولية، في الاطوار الاولى من الرأسمالية (لا تزال سارية الى حد كبير حتى اللحظة) غير ممكنة الا على اساس بناء الرأسمالية على شكل وحدات قومية (دول) تكون الحامل والناظم لنشاط الرأسمال وعلائقه، لكن حياة الرأسمال انما تكون خارج هذه الوحدات، ولا بقاء له واستمراره الا خارجها ايضا. لم يستطع ماركس دراسة هذه المنظومة الرباعية كلها. هذا اولا، وثانيا ان ما كتبه عن هذا الموضوع (البند الاول مثلا) لم ينشر كله حتى سبعينيات القرن العشرين. فمثلا ان الجروندرسية
Grundrisse، التي تعد المكمل الضروري لرأس المال، لم تنشر الا في الثلاثينيات على نطاق محدود، ولم تدرس جيدا. كما ان ماركس ترك لنا مخطوطات 1863 ومخطوطات 1867 عن الرأسمال (نصف مليون ثم مليون كلمة على التوالي)، التي لم تدرس جيدا ايضا. وهذا يمعن في تعميق نقص اطلاعنا على النظرية الماركسية. ويا له من نقص فادح.
قلت ان ماركس درس الرأسمالية في موطنها الاساس بريطانيا، وليس المانيا، لان النمط الرأسمالي في هذه الاخيرة لم يكن متطورا بعد! ودرس الملكية العقارية (الريع العقاري) في روسيا، لانها قدمت له الظاهرة في شكلها الصافي. ولكن لا الرأسمالية توقفت، وما كان لها ان تتوقف، عند حدود حياة ماركس. ولا بقي المنهج الذي درس به الظاهرة (كأدوات تحليل واستبطان) على حاله. ماركس لا يعترف بالثبات. فالتغير هو الثابت الوحيد. ويصح هذا على الظواهر قيد الدرس، والمنهج (أداة الدرس) التي يعاينها. ما بقي ثابتا هو ضرورة نقد الرأسمالية، المستمر، الدائم، المتغير (تبعا للظروف) والبحث عن امكانات تجاوزها انطلاقا من تطورها هي بالذات، لا من تمنيات مصلح او طوباوي.
والحال ان نقد الرأسمالية اليوم، اما منكفئ (باستثناء هبرماس الالماني ونعوم تشومسكي الاميركي)، واما يعيش على اوهام الماضي وتصوراته (هذا هو حال جلّ الاحزاب الشيوعية، التي فقدت الرؤية ولا تفعل سوى تكرار جمل عقيمة، من ترسانة اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين).
كتب ماركس اذاً، او درس، التشكيلة الرأسمالية كما بدأت بالنشوء امام ناظريه، واستطاع ان يدرس، بامتلاء، ويقدم لنا العرض النظري، لركيزتها الاولى، الرأسمال. لكنه لم يكتب مجلده عن الدولة، ولا كتب مجلده عن السوق العالمي، ولا كتب عن التجارة الدولية. بتعبير آخر لم تسمح (امه الطبيعة) له بأن يكمل العمل. لكنه كان واعيا لبنية الرأسمالية كمعمار رباعي: رأسمال، دولة، سوق عالمية، تجارة دولية. ان كل مقولات ماركس، عن التشكيلة، عن البنية الفوقية والبنية التحتية، عن القوانين الاجتماعية بوصفها "ميولا"
Tendenzien, tendencies عن البنية الاجتماعية، وكل ملاحظاته الوجيزة عن الدولة والسوق والتجارة الدولية، تنتمي الى هذا الحقل التاريخي المحدد (العهد الرأسمالي)، ولا تنتمي لغيره. غير ان المدرسة السوفيتية – الستالينية، مطتّه قسرا ليشمل التاريخ كله وليشمل كل التشكيلات، وليشمل كل الظواهر، وهو مط وشمول لا تجده الا عند البابوات المعصومين، او في النظم الدينية، الغيبية.
واعود الى التقسيم الثلاثي التبسيطي الذي وضعه لينين لأجل القراء (او القارئ الوسطي) فأقول انه جرى تحويله الى قفص حبست فيه الماركسية، واضفى عليها ادعاءً شموليا مكتملا (ما ابعد ماركس عن ذلك بتواضعه العلمي المشهود!). ولينين نفسه اسهم في هذا بدرجة معينة. فمن جهة نجد لديه توكيدات قاطعة بأن الماركسية "مرشد" عمل، وانها مفتوحة على كل اتجاهات البحث، الى جانب توكيدات قاطعة بأن الماركسية علم كلي القدرة، وكلي الصحة! ليس ثمة علم كلي القدرة ولا كلي الصحة، خصوصا في المجال النظري الاجتماعي. كل ما لدينا هو فرضيات.
هناك تقسيمات لفكر ماركس تخرج من الاطار الثاني (مادية تاريخية، مادية ديالكتيكية، اشتراكية علمية)، الى اطار اكثر تعددا (من ناحية المواضيع) واقل اتساعا (من ناحية المجال – أي قصر نقد ماركس على الحقبة الرأسمالية المعاصرة لا توسيعه على كل التاريخ، برغم اهمية ملاحظاته التاريخية).
دعونا نعاين وجهات نظر ماركس في الصيغة التالية:
1 – الماركسية والتاريخ.
2 – الماركسية ونظرية المعرفة.
3 – الماركسية والمجتمع (البنية الاجتماعية).
4 - الماركسية والدولة.
5 – الماركسية والاقتصاد.
6 – الماركسية والقومية.
7 – الماركسية والعولمة.
من جديد ينبغي ان انبه الى ان هذه الحقول المتعددة (اوسع من التقسيم الثلاثي) مقصورة على التشكيلة الرأسمالية المعاصرة، فماركس هو منظّر تناقضات الرأسمالية وإمكان تجاوزها. كما ينبغي ان انبّه الى ان هذا التقسيم هو اقتراح جديد لمعاينة فكر ماركس من زوايا عدة، وتلمس مواطن قوته وبواطن ضعفه.
سأتناول هذه الحقول منطلقا من قراءات عديدة انجزتها عقول ماركسية عملاقة في الغرب، استطاعت بفضل انفتاح حقل البحث من دون قيود، ان تبتدع وتعمّق. وسيكون اساس التناول، كما هو حالنا دوما (أي كما يجب ان يكون)، هو:
أ - ان نظرية ماركس لم تكتمل في حياته.
ب - ان الظواهر التي درسها في تحول مستمر.
ج - ان منهج دراسة الظواهر في تعمق مستمر بفضل الانجازات الجديدة في علوم المنهج.
هذه الاسس الثلاثة تضع على عاتق الماركسيين مهمة عسيرة: استمرار الاطلاع على كل فرع معرفي جديد، او انجاز جديد في فرع معرفي قديم، ورصد حركته النقدية. وهي مهمة تضطلع بها اعداد هائلة من الباحثين، والممارسين من المختصين بالعمل النظري والفكري، والمختصين بالنشاط العملي في تضافرهم المشترك.
لنأخذ الحقول الثمانية المذكورة اعلاه ونبدأ بـ:
اولا – الماركسية والتاريخ
ابتدأت هذا الحقل بعنوان "الماركسية والتاريخ" بدل "المادية التاريخية" عن قصد، حتى لا تضيع نظرة ماركس الحقيقية الى التاريخ او تفقد طابعها الفعلي.
تقدم لنا الستالينية نظرة ماركس الى التاريخ على اساس لوحة ستالين الشهيرة لتسلسل: المشاعية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية، فالاشتراكية. كل تشكيلة مؤلفة من بنية فوقية وبنية تحتية، وطبقات (عدا المشاعية) وتتميز بصراع طبقي. وتصل كل تشكيلة بنمو القوى المنتجة الى نقطة لا تعود علاقات الانتاج تتلاءم معها، فتمزقها، لتنشأ تشكيلة جديدة.
كما قلت سابقا ان مفاهيم البنية الفوقية، والتحتية، وتصادم القوى المنتجة بعلاقات الانتاج، ونشوء تشكيلة جديدة من رحم القديمة مفاهيم تختص في نظر ماركس بنمط الانتاج الرأسمالي، وبه وحده، وليست معممة على كل التاريخ.
لقد كان ماركس على غرار هيغل يرى ان التاريخ البشري، تاريخ واحد، تشترك فيه كل الحضارات، والشعوب، وان هذا التاريخ ينطوي على انماط تقسيم عمل: مشاعية، وعبودية، واقطاعية، ورأسمالية، وايضا شرقية (نمط الانتاج الآسيوي القديم).
هذا التنميط العمومي (المختلف عن نظرية المراحل الخمس) يراد به قول ما يلي:
- وجود تطور ارتقائي في التاريخ البشري.
- ان هذا التطور هو عملية عالمية واحدة.
- ان نمط الانتاج الرأسمالي هو ثمرة التطور السابق.
- ان هذا النمط الاخير ظاهرة جديدة وليست قديمة قدم الانسان.
اكتسب عرض ماركس التاريخ شيئا من ملامح الغبش الصوفي للهيغلية، بخاصة فكرة وجود غائية في التاريخ، أي كأن التاريخ هو ذات تعي نفسها. وهي فكرة انتقدها الماركسيون عموما، لأنها فكرة نافلة.
انتقد الماركسيون اللوحة الخماسية (لوحة المراحل المتعاقبة) التي صيغت في عهد ستالين، وعدت بمثابة القفص الحديدي. لاحظ باحثون كثيرون ان النمط العبودي الذي نشأ في اليونان وروما لم ينشأ في بلدان اخرى، وان نمط الانتاج الاقطاعي لم ينشأ لا في اليونان ولا روما، بل في المناطق الجرمانية (المانيا القديمة، فرنسا، الجزر البريطانية). اما الانتاج الرأسمالي فقد نشأ في بريطانيا وليس في اليونان.
هذا النمط من التناثر لانماط الانتاج (وهي بالاساس انماط تقسيم عمل)، لا يضع رابطة سببية او تعاقبا سببيا بين نشوء العبودية والاقطاع، فالرأسمالية في اليونان او روما القديمة.هناك دوائر حضارية لم تعرف العبودية. واخرى لم تعرف الاقطاع. وبقيت اخرى مشاعية الى يومنا هذا (قبائل استراليا الاصلية قبل الغزو الاوربي). لقد ارادت نظرة ماركس الفلسفية الى التاريخ ان تؤكد فكرة التطور والتناقض، الطابع المادي للتطور، الذي لم يكن مدروسا من قبل.
لنأخذ الرأسمالية:
لقد نشأت في اوربا الغربية (بريطانيا، فرنسا) بالتضاد مع الاقطاع، واقترنت بثورات سياسية حادة، بل دامية.
في السويد، حصل الانتقال تدريجيا الى الرأسمالية وبتسويات، ومن دون ثورات. وفي اليابان تولت الميجي الاقطاعية بنفسها بناء الرأسمالية، لأن البوارج الرأسمالية من اميركا ارادت فتح اسواقها بقوة السلاح للتجارة، فاضطرت الى الانتقال من منطلق حماية النفس. الخلاصة اليابانية ان دولة اقطاعية تتولى الانتقال الى الرأسمالية وتخلق طبقة رأسمالية. هناك انماط لا حصر لها من الانتقال الى الرأسمالية لبقاع لم تشهد عبودية، ولا اقطاعا. هذا التنوع من التاريخ يسخر من أية محاولة لحبسه في ما يشبه جدول الضرب.
الخلاصة ان نبذ فكرة اللوحة الخماسية، و(التشكيلات الستالينية) ومعها فكرة وجود انماط انتقال حديدية يفي ماركس حقه وينجيه من مغبة تعميمات لا شأن له بها. لأن ماركس طرح نظرة فلسفية عامة، هي مجرد اطار عام للنظر، وليس تحليلا مفصلا لكل وقائع التطور التاريخي.
وكما قلت فان ماركس لم يكرس قلمه لدراسة تطور الحضارات برغم انه استشهد بأحوال اليونان القديمة، ومصر القديمة، وحضارة الانكا والمايا. وان الدراسات المعاصرة عن هذه الحضارات، المتاحة لمن يريد ان يطلع، تقدم لنا استخلاصات مثيرة.
عدا عن تثبيت مفهوم التطور العام، والطابع المادي (انتاج الحياة) لهذا التطور، اراد ماركس ان يشدد على تاريخية نمط الانتاج الرأسمالي ونبذ فكرة انه ازلي، ويشدد ايضا على عناصر اختلافه عما سبقه. ويلاحظ ان امكانات التطور في التاريخ تتخذ اشكالا عديدة:
- تطور ارتقائي، تدريجي
Evolution
- تطور قطعي
Rupture
- تطور خطي (تراكمي – صاعد باتجاه واحد). (
Lineal)
- تطور دوري (ارتدادي ، ومتقدم في آن (
Cyclical
هناك ظاهرات في التاريخ تتسم بالتدرج الارتقائي، واخرى بتطور خطي، وثالثة بتطور دوري، ورابعة بتطور قطعي. وما ينطبق على نشوء وحركة الرأسمالية من اشكال تطور، ينطبق على اشكال تجاوزها المحتملة.
لو طبقنا هذه المقولات على انماط الانتقال الرأسمالية او انماط التغير الاجتماعي، لوجدنا امثلة وفيرة، على انتقال هادئ، تدريجي من الاقطاع الى الرأسمالية، ولوجدنا اشكال انتقال قطعية، تخللتها حروب وثورات، ولوجدنا اشكال انتقال خطية، واخرى دورية، ارتدادية، وهكذا. ان هذا التنوع في انماط التطور يعني تعذر وضع وصفة واحدة للتاريخ، لمساره، واشكال تجليه.
هذه الاوراق هي جزء من مبحث عن مستقبل الماركسية اقفل في آب عام 2000، اعددته في ضوء مشروع اعادة نشر "رأس المال" بالعربية، وفي ضوء الاسئلة التي اثارها الاستاذ مروة، جرى تنقيح المتن في شباط 2005..

 

 

 

تأمـــــــــــــــــلات فــــــي الماركسيـــــــــــــــة
 

(2ـ3)
 

د. فالح عبد الجبار

ثانيا: الماركسية ونظرية المعرفة
مثلما اقترحت التخلي عن وهم وجود "مادية تاريخية"، واحلال فكرة وجود "نظرة ماركسية الى التاريخ"، اقترح ايضا التخلي عن وهم آخر هو وجود "مادية ديالكتيكية" كاملة، ناجزة، هي الشكل "الوحيد" والأرقى للمعرفة.
تقوم المادية الديالكتيكية على عمودين، العمود الاول هو اولوية المادة على الوعي، وكون الوعي نفسه هو نتاج تطور شكل ارقى من المادة (الدماغ البشري)، والعمود الثاني، ان هناك "قوانين" للديالكتيك تنظم عمليات الطبيعة والمجتمع والفكر.
ان فكرة اولوية الوعي على المادة او اولوية المادة على الوعي قديمة قدم الفلسفة، والنظرات الفلسفية الاولية السابقة لها. وان القول بأولوية المادة على الوعي قديم قدم المادية اليونانية نفسها، شأن الديالكتيك، ولنا الملاحظات التالية:
أ – تقوم مادية القرن التاسع عشر، ونظرية المعرفة اللصيقة بها على ثنائية الذات والموضوع. الذات الواعية، والواقع الموضوعي، موضوع الوعي. هذه الثنائية هي موضع اعتراض منذ بداية القرن العشرين.
فالوحدة الاولى للمعرفة ليست ثانوية (ذات وموضوع)، بل رباعية:
ذات عارفة موضوع معرفة بتوسط اللغة كنظام اشارات لخزن المعرفة ونقلها، وذات اخرى تنقل لها المعرفة.
نحن لا ندخل الى أي ميدان اجتماعي بدون توسط اللغة، والدماغ الخازن لاشارات المعرفة المكونة بدورها من نظام معقد (دال – مدلول، اشكال – اصوات – علامات... الخ).
ب – ان نظم المعرفة حبيسة في نظم ثقافية (ثقافات قومية، ثقافات محلية، ثقافة عالمية متداخلة مع الثقافتين القومية والمحلية).
ج – ان الدراسات اللغوية (من البنيوية الى ما بعد الحداثة) قدمت اكتشافات مهمة انعزل عنها الماركسيون بالكامل تقريبا (اضطهاد باختين ابرز مفكر في هذا الباب داخل بلاده – روسيا)، من سوسير، اول بنيوي لغوي، الى نعوم تشومسكي احدث العباقرة في هذا الميدان.
د – ان الفلسفة نفسها، التي كانت علم العلوم، تقلصت اليوم الى مجرد حقل صغير يعنى بعلم المعرفة (الابستمولوجيا)، ويشمل المنطق.
هـ - ان علم المنهج
Methodology الذي كان اختصاص الفلسفة وركنها الأعز، انفصل عنها، وبات لكل علم منهجه (مناهج علم الاجتماع، مناهج الاقتصاد، مناهج الانثروبولوجيا، مناهج الفيزياء وهلمجرا).
و – ان منطق هيغل الذي لخصه انجلز في كتابيه (انتي دوهرنغ وديالكتيك الطبيعة) يقف متخلفا الآن عن انجازات العلوم الفلسفية وبخاصة في مباحث المعرفة، وان الزمن قد تجاوزه بشوط كبير.
ز – ان علم المعرفة لم يكتف بالخروج عن أسر الفلسفة بل دخل ضمن املاك علم تشريح وفسلجة الدماغ، وعلم النفس.
هل هناك حاجة الى نظرية معرفة خاصة، جامعة، مانعة، في هذا الباب؟ لا اظن. لأنه اولا لا توجد نظرية جامعة، مانعة، بل توجد فرضيات متوسعة وبحث متصل. ولأنه ثانيا تجري هذه البحوث في ميادين اختصاص لا قبل لفرد او حركة ان تلمّ بها.
هل ننقطع عن الاطلاع على هذه الميادين؟ كلا. بل ان ما ألمّ بالماركسية من خور وتراجع يرجع في جانب منه الى انعزال القائمين على فكرها عن تيارات العصر الفكرية الكبرى: البنيوية، علم النفس، ما بعد البنيوية، التفكيكية، او عن مدارس ماركسية مهمة مثل مدرسة فرانكفورت، او مدرسة تشومسكي السنديكالية.

ثالثا: الماركسية والمجتمع
درس ماركس بنية المجتمع الرأسمالي، انطلاقا من انجازات المؤرخين الفرنسيين عن الطبقات الاجتماعية، ومن كتابات غيرهم عن بنية "المجتمع المدني"، أي الرأسمالي، (مثل جروتيوس، ومونتسيكيو، وهيغل).
اعتبر ماركس العلاقة بين العمل ورأس المال هي الجوهر البنيوي الذي ينبغي فهم كل العلائق الاجتماعية، في اطاره، وعلى اساسه.
لم يأخذ ماركس اية امثلة من خارج اوربا، لأن الرأسمالية لم تتطور بعد خارجها. كما لم يأخذ جل امثلته الملموسة إلا من بريطانيا وفرنسا بشكل اساس.
رسم ماركس في التجريد النظري طبقتين خالصتين هما الرأسمال = الرأسماليين من هنا، والعمل = العمال من هناك. وهذا التجريد ضروري لدراسة الظاهرة بشكلها النقي. لكن دراسات ماركس الاخرى، اشارت الى وجود طبقات اخرى: الفئات الوسطى (ما يسمى بالبرجوازية الصغيرة)، الفلاحون، الانتلجنسيا. كما ان الرأسماليين، عنده، ليسوا كتلة، نتذكر كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت" (او ثلاثيته الشهيرة في فرنسا) هناك رأسمال صناعي، ورأسمال مصرفي، ينميان مصالح عديدة. كما ان الطبقة العاملة ليست بالكتلة المتجانسة، الموحدة، ولا بالكتلة الجامدة.
اعتبر ماركس الملكية او انعدامها اساس الموقع الطبقي. كما اعتبر المراتب الاجتماعية القديمة (الطبقات الاقطاعية) قائمة على معايير المكانة، الدين، الخ، الموروثة. ودرس اشكال الانتقال من البنى القديمة الى الجديدة. (مجتمعاتنا العربية في طور انتقالي من هذا الى ذاك).
توقع ماركس اتجاهات (
tendencies) عديدة بينها:
1 – عملية الافقار المطلق ستؤدي الى تحويل جل الفئات الاجتماعية الى بروليتاريا، أي تحول الاخيرة الى غالبية الشعب.
2 – ان تحطم الفئات الوسطى المتعلمة، سينقل للطبقة العاملة عناصر المعرفة.
3 – ان نظام المصانع سيحول جيش العمل الى قوة منظمة، منضبطة.
4 – تتحول طبقة العمال من طبقة في ذاتها الى طبقة لذاتها في عملية تطور الرأسمالية عينها.
لا تزال المجتمعات الرأسمالية تواصل عمليات التمركز والتركز للثروة المجتمعية، وتعزز سطوة الرأسمال، غير ان تطور الطبقة العاملة لم يسر باتجاه الافقار المطلق. وأدت الثورات العلمية المتلاحقة، الى زيادة الانتاجية زيادة هائلة، وتحويل ثروات متزايدة (قوى عمل + وسائل انتاج) الى ميادين الخدمات (القطاع الثالث) والعسكرة (القطاع الرابع) وصناعة الثقافة (القطاع الخامس)، أدى حلول الآلات محل الجهد العضلي اولا، ثم الجهد الفكري للمنتج ثانيا، عبر الاتمتة، الى حصول اتجاهات جديدة في تطور البنية الاجتماعية:
تقلص العمل اليدوي، تقلص الطبقة العاملة، اتساع الفئات الوسطى.
ان توقع ماركس باتساع الطبقة العاملة ظل يتحقق منذ مطلع الرأسمالية (اواسط القرن السادس عشر) حتى منتصف القرن العشرين. بتعبير آخر ان "القوانين" التي رصدها ماركس عملت لفترة، وهي، كما قال ماركس "ميول" وليست قوانين، فالقوانين ثابتة لا تتغير، والميول تتعدل وتتحور.
ولدينا الآن ظاهرة تقلص الطبقة العاملة في الدول الصناعية المستقرة، حيث نشأت الرأسمالية، وعدم تطورها بدرجة كافية في الدول النامية، حيث نقلت الرأسمالية. وهناك حالات وسطية لا تزال تشهد تحقق "ميول" المجتمع الرأسمالي كما رصدها ماركس في حياته.
هذا الوضع بالطبع يعطي الثقل الاجتماعي للفئات الوسطى، وتترتب عليه استنتاجات كثيرة ذات طابع عملي، متروكة للممارسين.
وبالطبع فان هذه الميول الجديدة ليست ازلية هي الاخرى. ولا يستطيع احد ان يعرف على وجه الدقة ما سيحصل للبنى الاجتماعية في حالة التوصل الى مجتمع مؤتمت، أي مسيّر بأجهزة آلية، ذاتية التنظيم والتفكير (على غرار نظم الكومبيوتر الفائقة)، وهل ان مثل هذا المجتمع يوصل احتدام العلاقة بين التملك الخاص للثروة، والطابع المجتمعي الشامل للانتاج، الى مدى اقصى، ويحل، في الوقت نفسه، مشكلة توفر المعلومات اللازمة لتنظيم المجتمع، او تسييره وفق خطة منظمة، بدل الفوضى الضاربة، مع ما يتطلبه ذلك من اعادة توزيع الثروة.
رابعا – الماركسية والنظرية الاقتصادية
يشكل هذا الحقل ألمع وأوسع وأغزر نتاجات ماركس، وتلاميذه، جيل كاوتسكي وبوخارين وهيرشفيلد ولينين، وسواهم.
ينطوي هذاالحقل على عدة مجالات:
1 – المجال الارأس، أي الجوهري، وهو ما حاولت الالماح اليه سابقا، يقوم في هذا: ان نمط الانتاج الرأسمالي، القائم على مبدأ الربح (استخلاص فائض القيمة – المطلق اولا، فالنسبي لاحقا) لا يستطيع العيش بدون توسع (اعادة الانتاج الموسعة)، التي تتطلب توسعا في الاسواق (القومية والعالمية)، ويتحقق عبر التجارة الدولية، بتوسط الدولة (في القرون الاولى) وخارج قيود هذا التوسط في عصر العولمة . يصف لنا ماركس في الجروندريسة
Grundrisse وفي الاجزاء المجهولة من رأس المال . ان الرأسمالية تتوسع باطراد، وتخلق بتوسعها القيود والعقبات الخالقة للأزمة، وتحفزها الأزمة على ابتداع حلول وطرق جديدة، فتخرج منها الى توسع أكبر واشد عنفوانا، ويخلق التوسع الجديد قيودا وعقبات جديدة، تستثير بدورها محاولات تجاوز، وهكذا دواليك، حتى تصل الرأسمالية (كنظام عالمي) الى نقطة يتعذر بعدها تجاوز عقباتها هي، فتدق عندئذ ساعة النهاية. هذه هي رؤية ماركس.
هذا النمط من التنبؤ النظري يحيلنا الى السؤال الكبير الذي اثاره المؤرخ الماركسي بيتر جوان
Peter Gran: ما هي الآماد الزمنية لمثل هذه العملية؟ قرن؟ قرنان؟ سبعة قرون؟ ويجيب: "نحن لا نعرف! لا ندري ان كنا في اواسط عمر التشكيلة الرأسمالية ام في اواخرها! وان القول بمرحلة اخيرة (عليا)، تخمين وحدس قد لا يصمدان امام الواقع."
يواجه الماركسي الواعي المشكلة التالية: ان آماد تطور التشكيلة لا تحسب على غرار آماد حياة البشر. لكن الوعد الثوري بتجاوز التشكيلة الرأسمالية يواجه محنة المصالح المادية الآنية للحركات والطبقات الثورية، فهي تريد تحقيق انجازات، هنا، الآن، وليس انتظار وعد (قد يكون بنظرها مجرد يوتوبيا). هذا الاحتدام بين الآماد (المدة) الموضوعية للتطور، والآماد المحدودة للحياة البشرية يصح هنا على المفكرين، كما يصح على قادة الحركات وانصارها. هذا التضاد يدفع الى تفكير رغائبي، الى "تمنيات" بـ"قرب النهاية". لعل مثل هذا التضاد يقف وراء القول بأن "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" (قد تكون مرحلة وسيطة)، او يقف وراء قول ستالين بامكان بناء الاشتراكية خلال حياة جيل واحد (حياته هو)، او قول (زعم) خروتشوف بأن بناء الشيوعية سيكتمل في التسعينيات (من القرن الماضي اثناء رئاسته طبعا).
2 – وضع ماركس صورة (تنميط نظري او نمذجة) للرأسمالية الفردية كما نشأت في بريطانيا، وتنبأ بتحول ملامحها باتجاه الاحتكار. ووصف، معتمدا على الوقائع التاريخية وليس على الحدس، نموذجين لصعود نمط الانتاج الرأسمالي: صعود الحرفي الصغير، او صعود التاجر (أي اما من دائرة الانتاج، او دائرة التداول). ولو قيض لماركس ان يعيش حتى اواسط القرن العشرين، لوسع نموذجه الى عدة انماط:
2 – أ – النمط الفردي/ الرأسمالية الفردية.
2 – ب – رأسمالية الدولة.
2 – ج – الرأسمالية القرابية.
2 – د – خلائط او هجائن من أي اثنين، او حتى هذه الثلاثة.
اذا كان نمط الرأسمالية الفردية مفهوما، فان رأسمالية الدولة انطلقت من البلدان التي جاءت الى الرأسمالية متأخرة بعض الشيء (المانيا، ثم روسيا)، وقد سخر انجلز من الاشتراكيين الالمان، الذين ظنوا ان "قطاع الدولة" هو "بناء اشتراكي". (راجع مقالته عن قضايا السكن وغيرها من الامور في المانيا).
تكشف لنا رأسمالية الدولة والرأسمالية القرابية عن هجائن فرضها التطور (على شكل خطر عسكري من دول متطورة، او منافسة تجارية حادة). اما تطور الرأسمالية القرابية (اندونيسيا، السعودية، ودول اخرى) فيكشف لنا ان نقص المؤسسات الاجتماعية والقانونية الحامية للملكية، ونقص تطور المؤسسات المجتمعية الحديثة، يدفع باتجاه الاحتماء بشبكات القرابة (حتى على مستوى الحرفي الصغير).
لهذه الانماط، او خلائطها تمايزات عديدة، ونتائج سياسية خطيرة. منها ان شكل رأسمالية الدولة لا يسمح بتطور المؤسسات الديمقراطية بل يعيقها، ويعيق بالتالي، تطور الرأسمالية نفسها في المدى البعيد. اما النمط القرابي فانه يضيف الى ذلك عوائق اخرى اجتماعية وثقافية. 3 – درس ماركس المكونات القطاعية للرأسمالية على اساس ثنائي:
القطاع الاول (انتاج وسائل المعيشة).
القطاع الثاني (انتاج وسائل الانتاج).
تطورت هذه البنية القطاعية في عدة اشكال تبعا لمستوى تطور القوى المنتجة. فكلما ازدادت القوة المنتجة تعاظما، قل العمل الضروري اللازم لانتاج وسائل المعيشة ووسائل الانتاج اللازمة لها. وزاد العمل الفائض المكرّس للحاجات الاخرى. ويلاحظ ان لدينا في الاقل ثلاث بنى قطاعية، حاليا:
3 – أ – الرأسمالية المتطورة – تحركت على النحو التالي:

بلغ التصنيع و الانتاجية الرأسمالية شأنا عظيما اليوم بحيث ان قطاع "صناعة الثقافة
culture Industry" يستوعب اليوم 40% من قوى العمل في الولايات المتحدة مثلا.
3 – ب – رأسمالية الدولة الاجتماعية (البلدان الاشتراكية):
لم تستطع دول التجربة الاجتماعية الوصول الى قطاع خدمات متطور، او قطاع خامس اكثر تطورا. وبقيت عواصم مثل موسكو ووارشو، تفتقر الى جهاز استنساخ، او فاكس، حتى الثمانينيات!
3 – ج – رأسمالية الدولة الخليطة
يفتقر هذا النموذج الى القطاع الثاني، الذي تقرر الانتاجية فيه مستوى تطوير ما يليه من قطاعات. كما يتميز بضعف القطاع الاول (انتاج وسائل المعيشة)، ولما كان الريع المستمد من الصناعات الاستخراجية (النفط) او بيع الخدمات السياسية والامنية والعسكرية للدول الغنية، عرضة للتقلب، فان التطور السريع لقطاع الخدمات يقف على رمال رخوة.
الخلاصة: المكونات القطاعية في تغير وتحول مستمرين، وان هذه التحولات مقبلة على ثورة كبرى، في حال تعميم الاتمتة.
4 – يتميز النظام الرأسمالي العالمي اليوم بتداخل واسع ومتشعب، يزج شعوب الارض قاطبة. ولم يعد هذا النظام معتمدا على دولة ضامنة (انجلترا في القرن التاسع عشر، واميركا حتى عام 1973، عام سقوط اتفاقية "بريتون وودز" الضامنة للمبادلات العالمية بالدولار).
ويتسم الوضع الحالي بأن التأثيرات المتبادلة للانتاجات القومية (كوحدات مؤلفة للبنية الكلية) يخلق وضعا خارج سيطرة أي وحدة منفردة فيه، مما يدفع باتجاه العمل الجماعي (الاتحاد الاوربي، مجموعة السبعة – صارت ثمانية – الكبار).
لاحظ مثلا التدخل الهائل لمعالجة الانهيار المالي في المكسيك (ضخ عشرات المليارات)، او معالجة الوضع الكوري الجنوبي (احد النمور الآسيوية)، او معالجة الوضع الاندونيسي. لقد ضخت الرأسمالية العالمية، عبر قنواتها الناظمة (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي) ما يقارب 200 مليار دولار لمعالجة أزمات ثلاثة بلدان ليست متطورة ولا اساسية في المنظومة.
والاستنتاج الاولي، ان المنظومة الكونية للرأسمالية لا تستطيع العمل بصورة متسقة، سلسلة، خالية من الأزمات، الا بسير كل اجزائها سيرا "طبيعيا"! بتعبير آخر ان منابع الأزمة في الرأسمالية عممت على سائر مكونات المنظومة، بدرجات متفاوتة الشدة بالطبع. كما ان الجهد التدخلي التنظيمي بات اكبر وأوسع. ولكن ماذا سيحصل، ومن سيضخ لمن، اذا اندلعت الأزمة في اكثر من موقع، وفي آن واحد!
بودي الاسترسال حول تحويرات بنية الانتاج (حلول الآلات محل العمل الفكري)، وتحويرات قانون القيمة الماركسي (الخاص بسلع الصناعات التحويلية) الى مظاهر جديدة لقوانين سلع صناعة الثقافة (دقيقة اعلان بخمسة ملايين جنيه، او سعر لاعب كرة قدم بـ55 مليون جنيه، او سعر صورة او صوت لمغن شهير... الخ).
ان "موت" الماركسية "المعلن" سيثبت زيفه في اول أزمة واسعة، آتية. والغريب، كما تقول احدى الصحف الليبرالية البريطانية، ان "اتباع" ماركس، يهجرونه، اما المنظمون الرأسماليون فيعيدون اكتشافه! ويعلنون بدهشة: ان توقعات ماركس حول سيطرة الاقتصاد على السياسة صائبة، وتتحقق الآن امام ناظرينا، وان الأزمات المصاحبة للنمو، جزء من التكوين البنيوي للرأسمالية.
هذه المفارقة مفهومة. فـ"الاتباع" يهجرون الماركسية بصيغتها الميتة، أي التي عرفوها ناقصة مشوهة، اما الرأسماليون فقد تحرروا من عقدة العداء لماركس، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وصاروا يرونه بتوازن اكبر. ما احوجنا الى ان نصاب بعدوى رؤيته بتوازن اكبر، ووضوح اشد!

*ترجم الجزء الاول من الجرونديسة (أي الخطوط العامة للاقتصاد الرأسمالي) ونشر عن دار ابن خلدون (ترجمة عصام الخفاجي).
*ترجم الجزء المجهول ونشر عن دار الفارابي (ترجمتي). ومن المفيد، بل الضروري الاطلاع عليها.
*في حديث لبيتر جران خلال ندوة "العولمة" في القاهرة نيسان 1997. وللمؤلف كتاب قيّم ترجم الى العربية، يقارن فيه انماط الرأسمالية في العالم المتقدم والبلدان النامية اعتمادا على ثنائيات: بريطانيا، الهند، ايطاليا، مصر والاتحاد السوفييتي – العراق. وهو مهم للاطلاع.

 

تـــــــــــأملات في الماركسيـــــــــة

 

د. فالح عبد الجبار

خامسا – الماركسية والدولة
بعد الرأسمالية، او الرأس مال، تأتي الدولة في التسلسل التالي لمشروع دراسة ماركس، وهو المشروع الذي لم يتحقق، لسوء حظنا.
شدد انجلز على الطابع القمعي كوظيفة اولى واساسية للدولة الحديثة في العهد الرأسمالي، وفعل ذلك بصورة مطلقة، كما شدد انجلز (كتاب اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) على ربط نشوء الدولة بالصراع الطبقي اساسا، وفعل ذلك صورة مطلقة.
اما ماركس فانه قبل بهذا التحديد، ولكنه اضاف عليه ابعادا كثيرة منها: علاقة الدولة بالمجتمع المدني، علاقة الدولة بالطبقات، استقلال الطبقة السياسية (القائمة على اجهزة الدولة) استقلالا نسبيا عن الطبقات المالكة، التمايز البنيوي للدولة من حيث مؤسساتها. لكن ملاحظات ماركس، للأسف، لم تحظ بالاهتمام الكافي قبل ان يتحرك العقل الماركسي رالف ميليباند، الذي نبه الى هذه المسائل وغيرها.
اوردت الدراسات الانثروبولوجية للحضارات القديمة، ان الدولة نشأت كجهاز حماية لدولة – المدينة (اثينا، روما، بابل، الانكا، الصين، مصر القديمة) ضد البوادي، أي ليس لقمع جزء اجتماعي داخلي، بل لصد جماعات خارجية. بتعبير آخر ان نشوء الدولة يرجع الى التضاد بين الشكل المستقر للمجتمعات البشرية (المحمية بالاسوار) والشكل المترحل (البدو بلغة العرب والبرابرة بلغة الاغريق)، كما يرجع، لاحقا، الى التضاد بين مراكز الحضارة نفسها. فلم يكن عبيد هذه المدن بحاجة الى ادوات لجم مادية، ذلك ان الدين والاعراف، وانغلاق الطبقات القديمة، وحرمة الاتصال فيما بينها، كانت جزءا من التقاليد والعبادات الكفيلة بالضبط المجتمعي. ولم تقم الدولة بوظيفة قمعية ضد العبيد إلا بعد فترة طويلة من نشوئها وتطورها، وبعد نقل العبيد من الانتاج المنزلي، الى الانتاج الزراعي والمنجمي، ولم يحصل هذا التحول إلا بعد قرابة 3 آلاف عام من نشوء دولة المدينة!
اهمل الماركسيون ملاحظات ماركس عن الدولة كما اهملوا تحليل الدولة الحديثة من حيث:
(1) انها ممثل لجماعة قومية محددة (الاهتمام بنشر الثقافة القومية، وتوحيد اللغة عبر اجهزة التعليم).
(2) انها لبنة في المعمار الرأسمالي العالمي.
(3) انها تتولى وظائف انتاجية وثقافية.
(4) انها تمتاز بتكوين بنيوي متباين من حيث المؤسسات ودرجة تمايزها.
(5) انها تحتاج دائماً الى مصادر شرعية (الدين، الايديولوجيا، التعاقد الاجتماعي... الخ).
(6) انها ذات علاقات متباينة بالمجتمع المدني... الخ.
هذا التذكير مفيد لنبذ الفكرة التبسيطية عن الدولة الحديثة كنتاج للرأسمالية وحسب!
فاذا كانت الرأسمالية واحدة، فما الذي يفسر لنا نشوء عدة اشكال من الدول داخل نمط الانتاج الرأسمالي، بل داخل بلد واحد، ولماذا تبرز دولة الملكية المطلقة، او دولة الملكية الليبرالية المقيدة، او الدولة البونابرتية، او الدولة الفاشية، او الدولة التقليدية القرابية، وهلم جرى كلها داخل التشكيلة الرأسمالية الواحدة.
قلت في مبحث مطول (ماركس والدولة – النظرية الناقصة)(1) ان ماركس ترك لنا الحقل فارغا، وان "هذا الحال يستثير تعاسة الدوغما بلا ريب، ولكن من أين نأتي لها باستقرار الاشياء وهنائه في عالم التنوع المناكد؟".(2)
اقول هذا لأننا بحاجة الى دراسة الدولة في عالم اليوم بوجه عام، ودراسة الدولة في عالمنا العربي، وفي العراق تحديدا، اضافة الى حشد من الدراسات التطبيقية. وبودي اقتراح عدد منها للاطلاع، وبخاصة ما يتعلق منها بالتطور الديمقراطي، المفتاح نحو مجتمع يدير صراعاته بصورة قانونية، مؤسساتية، سلمية، مع ادراكي ان هذا الافق بحاجة الى مدى تاريخي كامل كي يتحقق في بلد مثل العراق انحطت فيه الروابط المدنية الحديثة الى ادنى مستوى من السقوط.
ان الديمقراطية الرأسمالية، هي الممهد التاريخي الحضاري، نحو أي افق ما بعد رأسمالي يمكن تخيله، ولا يشفع لنا ان العالم يتقدم الى ما بعدها.

سادسا – الماركسية والقومية
تعتبر الدولة القومية (
nation – state) شكلا جديدا للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، ملازما للعهد الصناعي الرأسمالي. فالجماعات البشرية التي كانت تتحدد بالانتماء الى قبائل وعشائر، او دول مدنية، ومقسمة الى احياء وبيوتات واصناف، صارت تعيش في مجال واحد موحد، محدد سياسيا بالدولة المركزية ذات التخوم الجغرافية المثبتة، ومحدد ثقافيا باللغة (او مزيج الدين واللغة، او مزيج اللغة والعرق)، ومحدد اقتصاديا بالسوق القومي، ومحدد اجتماعيا بالمؤسسات المجتمعية.
ان عمر هذا التنظيم الجديد للبناءات المجتمعة لا يزيد على 3 قرون.
اعتبر هذا الشكل الجديد (الدولة القومية)، في اطار الماركسية، بمثابة ثمرة للتطور الرأسمالي بما فيه من (أ) نظم اتصال مادية (سكك حديد، سفن بخارية وخطوط تلغراف) تسهل التبادل التجاري وتسند تقسيم العمل المتشعب. وبودي ان اضيف معمارين هما: (ب) نظم اتصال ثقافية: لغة موحدة، وسائل طباعة (صحيفة... الخ)، تشكل اداة التفاعل. (ج) نظم ادارة سياسة مركزية – جهاز اداري موحد، نظام قضائي موحد، جيش دائم... الخ.
اعتبر ماركس تطور الدولة القومية نتاج عملية ارتقاء تطوري مديد، وانتقال من مستوى انتاج ما قبل رأسمالي الى رأسمالي حديث.
ونلاحظ هنا ان اولى الدول القومية نشأت عفوا، أي بدون وجود "حركات قومية" او "ايديولوجية قومية". لكن دول الموجة الثانية قلبت التسلسل: ابتداء من حركات وايديولوجيا قومية، وصولا الى دولة قومية مركزية حديثة.
لاحظ احد المفكرين ان ماركس، الذي امتاز بعين ثاقبة لكل ما هو جديد، طرح بديله الأممي (العالمية ما فوق القومية) في القرن التاسع عشر تحديدا، وهو قرن الموجة الثانية للقومية (المانيا، ايطاليا، ثم بولندا والشعوب السلافية لاحقا).
ورث ماركس، شأن اوغست كونت، وسان سيمون، النظرة الارتقائية لمفكري اواخر القرن الثامن عشر، وهي النظرة القائلة بأن الدولة المركزية (= الدولة القومية) هي لحظة عابرة في التطور، وان تجاوزها الى رحاب العالمية (الاممية) ضرورة واتجاه محتوم للتطور.
هذا الاستنتاج اغفل واقعة ان الرأسمالية اذ ترسي الاساس للعالمية، فانها انما ترسيه بتوسط الدولة القومية. وبالفعل فان التطور العالمي سار في اتجاه توطيد الدولة القومية على امتداد القرن التاسع عشر (بوتيرة بطيئة) ثم القرن العشرين، بوتيرة متسارعة، كان آخر موجاتها تفكك يوغسلافيا الى مكوناتها القومية، وقبلها تفكك باكستان (الى بنغلاديش وباكستان)، وتفكك جيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفييتي نفسه، الى مكوناته القومية.
وبينما يحث التطور العالمي توطيد الأسس لتجاوز الاطار القومي (الاتحاد الاوربي)، فانه لا يزال يواصل بقايا العملية الاخرى: ونشوء دول قومية (فلسطين الآن، والاكراد مستقبلا).
واليوم فان العالمية التي توقع لها ماركس ان تتحقق وتتجاوز الدولة القومية بسرعة (خلال حياته، ربما) خرجت من اطار الدولة القومية الى الكونية، أي اقتربت من النموذج النظري، الذي استبق الواقع. ماذا حصل للحركات الاشتراكية والشيوعية خلال هذه الفترة؟
1 – في الطور الاول (ماركس، روزا لوكسمبرغ، كاوتسكي، ولنين ايضا) – ازدراء النزعة القومية، واعتبار الدولة القومية لحظة عابرة، يتم تجاوزها بفضل الاممية التي ترسي الرأسمالية ركائزها المادية والثقافية.
2 – في الطور الثاني (لينين – ستالين) قيام الحركات المنتصرة ببناء دول قومية، والاعتراف بها كلبنة من لبنات معمار العالم المعاصر، لبنة ضرورة باطلاق.
لقد انحبست كل الحركات العمالية في اطرها القومية، الى حد التطابق.
3 – واليوم، اذ تبدأ عملية الخروج من الأطر القومية الى العالمية (الكونية، العولمة) يقف اليسار مرتعبا من ذلك، متشبثا بالماضي، بعد ان عاش جل القرن العشرين داخل الاطار القديم، بتعبير آخر بينما يبرز اساس متين للأممية، تبقى اشكال الفكر والممارسة حبيسة الاقفاص المحلية.

سابعا – الماركسية والعولمة
ينبغي ابتداء التمييز بين العولمة
globalization كعمليات موضوعية، ومذهب (او مذاهب) العولمة globalism، أي التفسير الايديولوجي لهذه العمليات، والبرامج السياسية المشتقة منها.
ان اغلب الدراسات الجادة (الماركسية وسواها) يشير الى ان العولمة هو الاصطلاح الذي يطلق على كل العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تجري خارج سيطرة الدولة القومية بوصفها وحدة للتحكم، بعد ان كانت هذه العمليات تنطلق اساسا من الدولة القومية باعتبارها المرجع والاطار المقرر، أي أداة التحكم والفعل.
ان قصر العولمة على الجانب الاقتصادي وحده (فتح الاسواق، اسواق السلع والمال، وفتح عمليات الاستثمار والتبادل بتجاوز اية سلطة سياسية قومية) هو قسر فكري، اختزالي وضار الى أبعد حد.
ان نظم الاتصال عبر الاقمار الصناعية، وتدفق المعلومات، والتسخين الكوني، واوضاع البيئة، الفقر، الاوبئة، الانفجار السكاني، الجريمة المنظمة، الهجرة المتبادلة هي جزء من عمليات العولمة، شأن تدفق السلع والرساميل والخدمات، وايضا (بحدود مقيدة) حركة قوى العمل.
وتنشط في العالم جملة هائلة من المؤسسات والآليات فوق القومية، من الأمم المتحدة، الى محكمة العدل الدولية، الى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومحكمة العدل الاوربية، مرورا بعشرات الآلاف من المنظمات الاجتماعية، والمعاهد والجامعات (بحدود ما هي مستقلة).
تطرح العولمة كاطار موضوعي عام لتطور المجتمعات الحديثة باشكالها الرأسمالية المتنوعة، جملة تناقضات منها:
أ – ان خروج هذه العمليات عن سيطرة الدولة القومية، يعطي الشركات العملاقة، باعتبارها قوى اقتصادية ناشطة، سلطة وسطوة فوق سلطة الدولة.
وهذا يطرح الاشكال التالي من زاوية التطور الديمقراطي في العالم المتقدم (حيث الديمقراطية تحصيل حاصل): كيف يسع التكنوقراط، وهو غير منتخب وغير مخول ان يقرر ويحسم؟ في حين ان الطبقة السياسية المنتخبة بالاقتراع والمخولة، لا تستطيع ان تقرر وتحسم. من يحكم؟ هذا السؤال يستثير العقول ويحفز على الآتي: (1) تشكيل حكومة عالمية. (2) تشكيل مؤسسات فوق قومية جديدة، ذات طابع ديمقراطي. (بيان ستوكهولم).
ب – اتجاه العلاقات الدولية نحو الفوضى الكاملة، بموازاة سعي الولايات المتحدة الى التصرف المنفرد، في الوقت الحاضر، وبموازاة نبتات كارتلات سياسية جديدة (صعود اوربا الموحدة).
ج – احتدام التوتر الثقافي، نظرا لانحباس الثقافات في اطر ثلاثة: اطار قومي، (دولة)، ما دون قومي (جزء من بلد)، وما فوق قومي. ويحتدم الصراع بفضل ظاهرتين متعاكستين: (1) نشاط الثقافات المحلية في ازدياد. (2) وسائل الاتصال الالكترونية تفتح له المجال للانتشار ما وراء الاطار المحلي.
د – ان تطور العولمة يذكي من ناحية انتشار قيم الديمقراطية، والعلم، والشفافية، وحرية المعلومات، ويدفع باتجاه الليبرالية السياسية (= الديمقراطية البرلمانية) من الوجهة الثقافية، لكن انفتاح الاسواق، وانفلات التطور الرأسمالي المفتوح، يستثير حركات احتجاج عارمة، تدفع النخب السياسية الى تشديد الاستبداد او انماط الحكم التسلطي.
بتعبير آخر، ان الليبرالية الاقتصادية، وان كانت (بالمعنى التاريخي العام) الاساس الموضوعي لليبرالية السياسية، تعمل، في ظروف العالم النامي وسط ظروف العولمة، باتجاه كبت الليبرالية السياسية.
هـ - اخيرا، ان الحركة المدومة للعولمة، تخلق، رغم نشرها للعلم والتكنولوجيا، حالة من انعدام اليقين تذكي النزعات الصوفية، والغيبية (وهذه احد منابع بروز الدين بقوة في حياة كثرة من البلدان المتقدمة والمتوسطة والمتخلفة – باستثناء اوربا الغربية).
بتعبير آخر ان التقدم العلمي التكنولوجي، يذكي "تقدم" اشكال الفكر ما قبل العلمي. هذه بعض اوجه عمليات العولمة.
هناك ثلاث استجابات ايديولوجية عامة للعولمة، هي:
1 – الاتجاه الليبرالي – الذي يحيي العولمة باعتبارها انتصارا للعقلانية، الرأسمالية، وانتصار الاقتصاد على السياسة، او فك حركة الرأسمال عن الدولة، كما دعا اليه أباء الليبرالية الكلاسيكيين (آدم سميث). وهو يدفع باتجاه الهجوم على نظم الرفاه الاجتماعي، وتأمين مناخ حرية كامل في ارجاء المعمورة.
2 – الاتجاه القومي والماركسي المنغلق، الذي يعيش في الماضي، ويعارض العولمة، جملة وتفصيلا.
3 – الاتجاه الماركسي النقدي، وايضا الليبرالي النقدي (سوروش، أتالي) الذي يدعو الى تطوير حكومة عالمية، واشكال لجم عالمية لحركة الاسواق، ومعارضة كل الاوجه السلبية لهذه الظاهرة، دون اغفال الطابع المزدوج للعولمة، وجوانبها الموضوعية.
ان العمليات التاريخية في المرحلة الراهنة، وان كانت تتسم بموضوعية، فان حقل الموضوعية هذا ناجم عن الفعل البشري المنفتح في كل لحظة على امكانات متعددة، وخيارات. فالتاريخ، كما يقول ماركس، عملية من صنع البشر، وان كانوا يصنعونه في شروط معطاة ومنقولة من الماضي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ انظر: ما بعد الماركسية؟ دار المدى، 1998، ص 193 فما بعد.
2 – هناك حشد من الكتب، ابرزها مما يستحق الترجمة:
(1)
Barington Moore, social orgins of Dictatorship.
(2)
Theda Skocpol, States & Social Revolutions.
(3)
K. Itling, Hegel’s Cencept of State and Marx’s Early Critique.
(4) R. Miliband, class, power and state power.
(5)
K. Magnire, Marx’ Theory of Politics.

لندن/كتب بالاصل في 4 – 14 – أب 2000

 

 

 

HOME