نشوة العقل و الوجدان في قصيدة الشاعر حميد كشكولي

 

   

 

ابراهيم سعد الدين *

واحتس ِ كأساً من رؤيا الخريف !

          حميد كشكولي  

 

 حين  تلتهب القروح ،

و  تتبلل ورود الإفريز  من ندى  الهجر،

و  يكون العيش ثقيلا مثل الرصاص،

و أغنيتُك حزينةً مثل هذيان الكراكي الضالّة،

تأمّل ِ السماءَ كالحة َ الزرقة ،

 عند مداخل المتنزّه ،

واذكر  الوزّات  الوحشية تحت السحاب !

لا تحزن !

فلولا الألم  لما كنتَ ترى  النورَ في كبد الليل ،

و لا انتابك هذا الحزنُ الطريّ.

قم ْ و قبِّلْ صليبك المنصوب فوق التلّ  المطلّ على رؤيا الشتاء  ،

و احتس ِ كأساً من رؤيا الخريف !

في شوارع الليل الباردة يودّع العشاق بعضهم مترددين ،

و لولا الألم لما كنتَ تسمعُ  عبارة  " إلى لقاء" ،

و لا غنّى لك اليمام ألحان الشجن،

و لنسيتَ هديلَ الفاختة في وسط الفناء.

لا تحزن!

إنّ قلبك  يسيل  في النهر الذي يلتوي  كالثعبان  حول خاصرة  الزمان،

و فؤادك سينمو مرة أخرى من بذور الشفق،

و ستعيدك  السوسن  عند عتبات كهوف الدروايش. 

هل ترى كيف يتمزق إهابك و يتجمّد اللبن في شرايين عنقك الزرقاء ؟

و يتدفق الدم  من خاصرتك؟

ستلمس  يوما جذورك ينحسر عنها التراب ،

و تتفتق فيها براعم الدفء و الحنين.،

 وشبق  الأرض  يسحب الماء من الشجر لإرواء ظمأ العيون.

اسمعْ صوتك الآتي من بعيد ،

والضبابَ الثقيل لأدعية الفجر،

وانظرْ في سكون المرايا،

ستلمس العمق المظلم لأحلامك في أهداب الليل.

لا تحزن!

حين ترسم عيونُك  في شوارع الليل قبلاتِ الهيام  ،

و فراشات ٍ تنمو لها أجنحتها التي احترقت في شوق الآلام ،

 فاذكرْني في قبلاتٍ مرسومة تحت تقاسيم عيونك الرؤوم.

ولا تقل : إنّ الفراشة التي قدمتها لك المياه فانية ٌ،

و  إن ّ  ألوانَ جناحيها ستمّحي و تتلاشى  رمادا في الرياح

واعلمْ أنّه حتى لو احترقت الفراشة كلّها

فطيرانُها الطائش يبقى أبدا في كل ّ كلام.

الاثنين, 13 كانون الاول, 2004

 

بيني وبين ما اصْطُلِحَ على تسْميته بـ ( قصيدة النثر ) ودٌّ مفقود . ربما لأنني من جيلٍ تشكّل ذوقه الفني ـ في الشعر بوجه خاص ـ في ظل ظروفٍ وأوضاعٍ ثقافية مُغايرة. وربما لتلك المفارقة التي أراها قائمة دون حلّ أو مصالحة بين كلمتي : قصيدة و نثر ، وأن المزاوجة بينهما تعني اختلاط جنسيْن أدبيَّيْن لكلٍّ منهما سماته المميزة وعلاماته الفارقة. وربما لأنّ الكثير من هذه الأعمال يبدو أشبه مايكون بالنّصِّ المُترجم عن لغة أخرى. ورُبما لأن التنظيرات التي واكبت ظهور هذا التيار لم تكن ترتكز على أرضيةٍ صلبة وأسانيد يُعْتَدُّ بها . ورُبما لأن بعض من تنقصهم مقومات الشعراء من موهبة وثقافة عميقة ألقوا بأنفسهم في مجرى هذا التيار استسْهالاً وتحرراً من ضوابط  وأصول وقواعد الشعر التقليدي ، فاختلط الحابل بالنابل والغَثُّ بالسمين. ورُبما ـ أخيراً وليس آخراً ـ لأن النماذج الجيدة من قصيدة النثر تبدو أقرب ماتكون إلى النثر الفنّيّ ـ ذلك النوع الأدبي الذي يمثل حلقة وسطى بين الشعر والنثر، والذي تحفظ لنا كتب التراث قديمه وحديثه صفحاتٍ رائعة من إبداعاتِ الكتاب والشعراء الكبار فيه. فلماذا لا نُسمّي الأشياء بمسمّياتها ـ إذن ـ ونقول إن هذا التيار هو إحياء للنثر الفني وامتداد له ..؟!.

أيّاً مايكون الأمر ـ وبِغضِّ النظرعن التسميات ومدى استساغتنا لهذا الاتجاه من عدمه ـ فقد فرضتْ قصيدة النثر نفسها على واقعنا الأدبي وانتزعت الاعتراف بها من أوساط وقطاعات عديدة  ـ من خلال النماذج الجيدة التي قدمها لنا شعراء كبار وجُدُد على حَدّ سواء .

فضلاً عن ذلك فإن الأمانة الموضوعية  توجِبُ عليناأن نتعامل مع كل جديدٍ بعقلٍ متَفَتّحٍ وصَدْرٍ رَحْبٍ وحِسٍّ مُجِرَّدٍ من الهوى والأحكام الشخصية المُسْبقة وجَهْدٍ دءوبٍ لفَهْمِ مُعْطياته وتذوّقِ مواطنِ الجمال فيه . ذلك أن سُنّة الحياة ديْدنها التحوّل أو التغيّرُ الدائم ، فقد كان شعر التفعلية ـ يوماً ـ من المحظوراتِ في الأوساط الثقافية الرسمية حتى أن كاتبنا الكبير الراحل عباس العقاد أحال ديوان صلاح عبد الصبور "الناسُ في بلادي" إلى لجنة النثر للاختصاص ، غير أن ذلك لم يحُلْ دون تعاظم هذا الاتجاه الجديد ـ آنذاك ـ لتُصبحَ له الكلمة العليا في عالم الشعر بعد عقديْنِ أو ثلاثة عقودٍ من الزمان.

من هذه النماذج الجيدة لقصيدة النثر تلك المقطوعة التي بين أيدينا للشاعر حميد كشكولي ، والتي تتوافر فيها ـ بشكلٍ نموذجي ـ جماليات هذا اللون الجديد . فالإيقاعات الداخلية ـ هنا ـ بديلٌ للموسيقى الخارجية في الشعر التقليدي ـ بمافي ذلك شعر التفعيلة ـ ونعني بها الوزن والقافية. والبداهة الشعرية هي البديل للغنائية فالمقصود هنا ليس التطريب بل مخاطبة العقل والوجدانِ وتحفيز المخَيِّلة في آنٍ واحد ووفق نسقٍ محدّد وتوازنٍ دقيق . والتكثيفُ والإيجاز والتصاعد الشعوري الذي  يُنَبّه الوعي ويوقظ الحسّ بدفقاتٍ متتالية من الكشوف المضيئة لمجاهل التجربة  بديلٌ ـ هنا ـ لدغدغة الحسِّ المولّدة لخدر الانتشاء . والفكرة النافذة واللمحة المضيئة والصورة الدالة الموحية ـ إلى أقصى حدود الدلالة والإيحاء ـ هي وحدة بناء هذا العالم الشعري. لذا تحفلُ القصيدة بكل فنون البلاغة والبيان من تشبيه واستعارة وكناية ومقابلة وطباق .. وما إلى ذلك من المُحَسنات البديعية. أنظرْ مثلاً إلى مطْلع القصيدة الذي يحفل إلى حَدِّ الامتلاءِ بكلّ أدوات التصوير الفني :

حين  تلتهب القروح ،

وتتبلل ورود الإفريز  من ندى  الهجر،

ويكون العيش ثقيلا مثل الرصاص،

وأغنيتُك حزينةً مثل هذيان الكراكي الضالّة،

تأمّل ِالسماءَ كالحة َ الزرقة ،

عند مداخل المتنزّه ،

واذكرالوزّات الوحشية تحت السحاب !

وتمضي القصيدة على هذا النسق حتى تصل بك إلى ثمالة الكأسِ التي تُشبه لحظة التنويرِ في القصة القصيرة ، ففيها يَكْمُنُ مغزى القول ومعناه وحكمته :

ولا تقل : إنّ الفراشة التي قدمتها لك المياه فانية ٌ،

وإنّ ألوانَ جناحيها ستمّحي و تتلاشى  رمادا في الرياح.

واعلمْ أنّه حتى لو احترقت الفراشة كلّها ،

فطيرانُها الطائش يبقى أبدا في كل ّ كلام.

شُكْراً شاعرنا المُجيد حميد كشكول فقد أمتعتنا حقّاً بشرابٍ مُخْتلِف ألوانه عَذْب مذاقه ، لمْ يُسْكِرْنا وإن انتشيْنا به ـ نشوة العقل والوجدان معاً ـ فانبثقت في مخايلنا رؤى وتصاوير ما أغناها وأبدعها.

أما اختلافُ المُسَمّياتِ فهو لا يُفسدُ للشعر قضية.

إبراهيم سعد الدين

* شاعر و ناقد مصري

 

 

HOME