إلى نواب الشعب .. مع التحية

نــــزار حيدر

   

nazarhaidar@hotmail.com

   يوم الأحد ( 30 كانون الثاني 2005 ) بكت عيون العالم ، واحمرت مآقيه ، فرحا أو حزنا .

   فكل ضحايا الإرهاب والاستبداد والديكتاتورية والأنظمة الشمولية والفكر التكفيري التعسفي ، فرحوا بما شهده العراق ذلك اليوم ، من إقبال ، قل نظيره في العالم ، على صناديق الاقتراع ، في أول انتخابات عامة حرة ونزيهة يشهدها العالم العربي والإسلامي ، بل والعالم الثالث برمته تقريبا ، وفي الظروف القاسية التي يمر بها العراق ، ولذلك دمعت عيونهم فرحا وابتهاجا ، ولسان حالهم يقول للعراقيين ( يا ليتنا كنا معكم ، فنفوز فوزا عظيما ) .

   أما إعلام الأعراب ، وماكينتهم الدعائية السوداء ، وكل أنظمة الجاهلية الحديثة المتسلطة ظلما وعدوانا على رقاب الشعوب ، المحرومة من ابسط حقوقها .

   أما منظومة الفكر القومجي العنصري والطائفي البغيض ، الذي كان يتمنى لو تفشل تجربة العراقيين ، حتى لا تقدمهم إلى محكمة الضمير والتاريخ والشعوب ، التي لم ينتج لها هذا الفكر المتخلف الرجعي ، سوى الأنظمة الشمولية والجهل والتخلف والأمية والفقر والمرض والحزب الواحد والقائد الأوحد وعبادة الزعيم .

   أما كل أنظمة الانقلابات العسكرية ( السرقات المسلحة ) والأنظمة الملكية التي لا تتمتع بأية شرعية ، كونها تأسست تحت الاحتلال الأجنبي وبرعاية ودعم مباشر منه ، أما كل هؤلاء ، فقد بكوا بكاءا مرا واحمرت مآقيهم حزنا وكمدا على ما شهده العراق من ملحمة تاريخية عظيمة ، كذبت تحليلاتهم ، وخطأت آراءهم ، وسفهت أحلامهم ، وقلبت كل حساباتهم ، رأسا على عقب ، هذه الملحمة التي لن يفهم فلسفتها أمثالهم ، لأنهم جاهلون ومتخلفون ، لا تهمهم سوى مصالحهم الأنانية الخاصة والضيقة ، أما الشعوب ومصالحها ، فإلى جهنم وبئس المصير .

   ترى ، ماذا قال العراقيون في ذلك اليوم ؟ ولماذا ؟ وما هي الرسالة التي أرادوا تبليغها ؟ ولمن ؟ وماذا بعد ؟ .

   أولا ــ إنهم قالوا (نعم) كبيرة للحرية والإرادة الوطنية والكرامة الإنسانية التي يعشقها الإنسان (أي إنسان) بغض النظر عن انتمائه الديني أو القومي أو المذهبي أو أي شئ آخر ، فالحرية مخلوق سماوي يلد مع الإنسان لحظة ولادته إلى الحياة الدنيا ، وإذا كان الطغاة قد ينجحوا ، لبعض الوقت ، في سرقة هذا الجزء الصميمي من الإنسان ، فانه سيعود يوما ما إليه مهما كان الثمن .

   ولقد صدق الشهيد السيد محمد باقر الصدر، عندما قال قولته المشهورة قبل أن يعدمه نظام الطاغية الذليل صدام حسين عام (1980) : (إن الشعوب أقوى من الطغاة ، مهما تفرعنوا) وهذا ما لمسناه في العراق اليوم ، كما لمسناه بالأمس في إيران وأفغانستان والعديد من دول الأنظمة الشمولية التي صادرت حرية شعوبها لعقود طويلة من الزمن ، إلا أن النهاية كانت لصالح الشعوب وليس لصالح الطغاة ، مهما تجبروا وتفرعنوا ، وهذا ما سنشاهده في يوم من الأيام في كل دولة من دول العالم العربي والإسلامي والثالث ، التي لا زالت شعوبها ترزح تحت نير أنظمة مستبدة وشمولية ، صادرت حقوق شعوبها وحولت البلاد إلى بستان لعوائلها ، يتصرفون بغلاته وعائداته كيف وأنى يشاؤون ، والعباد ، إلى عبيد وخدم يخنقها الجهل ويقتلها المرض وتأكلها الحسرة ويبكيها ألم فراق الأحبة في غياهب السجون أو تحت التراب أو في المنافي البعيدة .

   كما قال العراقيون (لا) كبيرة جدا ، للإرهاب والعنف الذي بذل كل ما في وسعه لعرقلة إجراء الانتخابات العامة في موعدها المحدد ، إلا أن إرادة العراقيين كانت الأقدر على التحدي والالتزام بما اتفقوا عليه من مراحل تقدم العملية السياسية الجديدة .

   كما رسمت الانتخابات (لا) كبيرة أخرى ، رفضت النظام العربي العنصري الطائفي الذي سعى ، هو الآخر ، إلى عرقلة إجرائها في موعدها المحدد ، من خلال احتضان أيتام النظام البائد ، ومجموعات العنف والإرهاب التي اتخذت منه ملاذات آمنة ، وتلقت منه دعما ماليا ولوجستيا واستخباراتيا واسعا ، كما هو الحال مع الأردن الذي ظل يضع العصي تلو العصي في عجلة العملية السياسية الجديدة ، في محاولة منه لإفشال تجربة العراقيين ، ولكسب الوقت من اجل إيجاد موطئ قدم لفلول النظام البائد أو للإرهابيين ، للحيلولة دون مشاركة الأغلبية المطلقة من العراقيين في العملية السياسية الجديدة .

   ثانيا ــ لقد صاغ نسيج الديمقراطية الجديدة في العراق الجديد ، دماء الشهداء الأبرار الذين حفرت دماءهم الطاهرة نهرا ثالثا بمحاذاة نهري دجلة والفرات امتد من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب ، ولولا تلك الدماء الزاكية التي أريقت على ارض العراق الحبيبة ، لتسقي شجرة الحرية والكرامة ولتصون الوحدة الوطنية ، ولتعطي دفعات متتالية ومستمرة من روح الثبات والتصميم والصبر والمثابرة ، للقادة والزعماء ، ولكل عراقي حر شريف ، لما أينعت ثمارا يتلذذ بها العراقيون اليوم ، ولذلك فان الفضل كل الفضل لما شهده العراق يوم الانتخابات يعود (بعد الله تعالى الذي وفق العراقيين لأداء رسالة شهدائهم) إلى دماء الشهداء الذين أرخصوا كل غال ونفيس ، من اجل أن يحيا العراق مستقلا ، والعراقيين أحرارا وسعداء .

   اليوم فقط أثمرت دماء الشهداء ، واليوم فقط سجل العراقيون كل الحب والتقدير والوفاء لدماء شهدائهم ، واليوم فقط حقق الشهداء ما ضحوا بدمائهم من اجل إنجازه ، فالحمد لله أولا وأخيرا .

   اليوم فقط ، سيرقد الشهداء في قبورهم هانئين مطمئنين ، وهم يرون دماءهم قد أينعت شجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، فلتقر عيونهم في المقابر الجماعية والأنفال وحلبجة وحملات تنظيف السجون وكل دم طاهر أريق من نحر عراقي أو عراقية ، كبير أو صغير ، في سجون النظام الشمولي البائد .

   اليوم فقط ، ستسكن آهات الأرامل ويهدأ أنين الأيتام ، وتعود البسمة إلى شفاههم ، بعد غياب دام عقود طويلة من الزمن .

   لقد أحيت الانتخابات ذكرى الشهداء وعوائلهم وأسرهم على أحسن وجه ، ليس بالخطب الرنانة والكلام المعسول ، وإنما بالفعل الحضاري والإنجاز التاريخي الكبير الذي سيصونه العراقيون في مآقيهم خوفا عليه من السراق واللصوص والإرهابيين ، أن يسرقوه أو يقتلوه ، وهو بعد في المهد صبيا .

   ومن اجل أن نكون منصفين أكثر ، يلزم أن نسجل هنا مدى عظمة الدور الذي لعبته المرجعية الدينية ، وأخص بالذكر المرجع السيستاني ، في إرساء دعائم الديمقراطية الجديدة في العراق الجديد .

   سيسجل التاريخ للأجيال القادمة ، حقيقة أن من أبرز من ساعد على انتزاع الحرية التي سلبها منهم النظام الشمولي ، والتي حاولت مجموعات العنف والإرهاب ، أن تختطفها منهم ، هي المرجعية الدينية ، أولا وقبل أي طرف آخر ، فهي التي أصرت على إجراء الانتخابات في موعدها المحدد ، وتمسكت بقرار العودة إلى رأي الشعب مهما كان الثمن ، وتشبثت بالنظرية التي تقول بأن الشعب العراقي بالغ سن الرشد ، وهو عاقل بما يكفي للتمييز بين ما هو لمصلحته وما هو ضدها ، ولذلك يلزم أن نمنحه الفرصة للوقوف أمام صندوق الاقتراع ، ليدلي برأيه ، ويقول كلمته ، من دون وصاية من أحد ، فهو الأقدر على التفكير بعقله السليم ، من دون الحاجة إلى أن يفكر الآخرون بالنيابة عنه .

   كل ذلك ، بالرغم من ضخامة الضغوطات التي مورست ضد المرجعية الدينية ، لثنيها عن عزمها الراسخ ، وبالرغم من كل العنف والإرهاب والتهديد والوعيد الذي مورس ضدها من قبل أطراف عديدة ، كان من بينها المحاولات المحمومة التي بذلها ملك الأردن في هذا الصدد ، عندما طعن بولائها واتهمها في انتمائها ، إلا أن عزيمة المرجعية كانت هي الأقوى ، وان تصميمها كان هو الأمتن ، لان عزيمتها من عزيمة العراقيين ، وان تصميمها من تصميم العراقيين ، وصدق الله العظيم الذي يقول في محكم كتابه الكريم : (فأما الزبد فيذهب جفاءا ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) .

   ثالثا ــ لقد حملت الانتخابات ، ثلاث رسائل هامة ؛

   الأولى ، إلى الشعوب المقهورة والمضطهدة والمغلوب على أمرها ، لتقول لهم ، أن بامكانكم ، كذلك ، أن تنجزوا مثل ما أنجزه العراقيون ، بالإصرار والثبات والتمسك بإرادة الاختيار .

   صحيح أن ما حققه العراقيون في يوم الانتخابات ، كان معجزة وحلما بعيد المنال ، إلا انه قابل للتكرار إذا ما صمم شعب من الشعوب على أن ينال حريته ويقرر أن يختار ، فإرادة الشعوب أقوى من كل إرادة أخرى ، وان تحدي الإنسان للمعوقات ، أشد من أي تحد آخر مهما اشتد خطره ، والى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله ؛

   إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلابد أن يستجيب القدر

   ولا بــــد لليــل أن ينجـلــي ... ولابـــد للقيد أن ينكســر

   أما الرسالة الثانية ، فقد وجهها الحدث إلى الأنظمة الاستبدادية الشمولية التي تقهر شعوبها ، وتحكمها بالحديد والنار .

   مفاد الرسالة ، أن على مثل هذه الأنظمة ، أن تتعظ بمصير الطاغية الذليل صدام حسين ، فتبادر إلى الإصلاح الجذري والحقيقي قبل أن تجبر عليه ، بطريقة من الطرق ، وسوف لن تأسف شعوبها عليها إذا ما عثر على زعاماتها في حفر حقيرة كحفرة العنكبوت التي وجد فيها الطاغية الذليل من قبل .

   لا تكابروا ، فشعوبكم ليس معكم ، لأنها ، وببساطة ، لم تنتخبكم ، وإذا كنتم في شك من ذلك ، فدعوا الشعوب وشأنها ساعة من نهار ، وارفعوا عنها سياطكم يوما أو بعض يوم ، ليرى العالم ماذا ستفعل حينها .

   أما الرسالة الثالثة ، فهي موجهة إلى فقهاء التكفير والجهل والأمية الدينية (إن صح التعبير) ممن حرموا الانتخابات وكفروا أدوات العملية الديمقراطية ، واعتبروا صندوق الاقتراع هدفا عسكريا مشروعا لعملياتهم الإرهابية الإجرامية .

   تقول الرسالة ، بان الديمقراطية ، هي مفهوم ديني في جوهره ، وان وسائلها وأدواتها ، مشروعة لا زالت تنجز للناس ما هو أفضل من الاستبداد والديكتاتورية ، فلقد أحل كبار فقهاء وعلماء ومراجع العراق هذه الممارسة الإنسانية ، بعد أن اعتبروها أفضل الطرق وأسلمها لمنح الشعب حقه في الاختيار ، ومعلوم ، فان الحاكم الذي يلي أمور الناس بلا مشورة وانتخاب واختيار منهم ، لهو حاكم غير شرعي ، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية القانونية ، فضلا عن السياسية ، حتى إذا كان أعلم الناس وأفقههم وأحسنهم عملا ، لان الملاك في قياس شرعية الحاكم ــ أي حاكم ــ هو رأي الناس ، ولذلك رفض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) تولي أمور المسلمين بعد مقتل الخليفة الثالث ، إلا بعد عقد البيعة العامة في المسجد ، يشترك فيها الكبير والصغير ، المرأة والرجل ، كما رفض ابنه الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) تولي أمور المسلمين بعد استشهاد أبيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، إلا بعد عقد البيعة العامة في مسجد الكوفة كذلك ، وان ممارسة (الكفار) ــ على حد وصف فقهاء التكفير للآخر ــ لقيمة من القيم الإنسانية الحضارية ، كالانتخابات مثلا ، لا يحرمها على المسلمين ، أو يسقط شرعيتها أو لا يجيز للمسلمين ممارستها ، والحديث الشريف عن رسول الله (ص) يقول : (الحكمة ضالة المؤمن) .  

   رابعا ــ لقد أنجز العراقيون يوم الانتخابات ، خطوة تاريخية مهمة وكبيرة ، ولكنها ليست كل شئ ، بل أن المشوار طويل أمامهم ، يلزم أن يقطعوه بخطوات متتالية ومتواصلة ، الواحدة بعد الأخرى .

   إن ولادة الديمقراطية في العراق الجديد ، تشبه إلى حد بعيد ولادة الجنين من بطن أمه ، فلا يكفي انعقاد النطفة ليرى نور الحياة ، بل لا بد على الأبوين أن يتابعان خطوات الحمل خطوة فخطوة ، ويظلان يسهران على الحمل حتى تكتمل شروطه ، وان أي قصور أو تقصير من قبلهما خلال فترة الحمل ، يعرض الجنين إلى الخطر ، وربما الموت في بطن أمه ، أو عند الولادة .

   وتلك هي شروط عملية بناء الديمقراطية ، فهي كذلك ، بحاجة إلى المداراة والمراقبة المستمرة لرفدها بكل شروط ومقومات النمو والتكامل والاستمرار ، للحيلوية دون اعتداء اللصوص عليها أو القتلة المحترفين أو حتى أعدائها ، وللحيلولة كذلك دون انحرافها واختطافها من قبل أي كان .

   على العراقيين أن يفتحوا عيونهم جيدا ، ولا يشغلوا أنفسهم بنشوة الانتصار التاريخي الكبير الذي تحقق على أيديهم يوم الانتخابات ، وليتذكروا ضخامة المسؤولية التي يتحملونها ، والتي حملهم إياها نجاحهم يوم الأحد ، فالنجاح يزيد من مسؤوليات الإنسان ، وان تقدمه خطوة إلى الأمام ، يضاعف عليه المسؤولية .

   أما بالنسبة إلى الذين انتخبهم العراقيون ، وفازوا بمقاعد في المجلس التأسيسي الجديد ، فليسمحوا لي أن أقول لهم ما يلي ؛

   أولا ــ تذكروا أبدا بان ولي نعمتكم هو الشعب العراقي أولا وأخيرا ، فلقد فاز كل واحد منكم بمقعده ، عن طريق صندوق الاقتراع ، الذي أدلى به العراقيون بصوتهم وثقتهم بإرادة حرة ، واختيار واعي إلى درجة كبيرة ، ولذلك ، لستم مرتهنين إلى فضل الأجنبي عليكم ، كما هو شأن الأنظمة الشمولية ، ولستم أسرى الدبابة التي جاءت بالعديد من الأنظمة العسكرية إلى سدة الحكم بانقلاب عسكري سموه اللصوص (ثورة) ، كما كان الحال بالنسبة إلى النظام البائد .

   كذلك ، فليس لآبائكم أي فضل عليكم ، لأنكم لم ترثوا عنهم السلطة في نظام ملكي وراثي ، كما هو الحال بالنسبة إلى عدد من أنظمة الجيران ، كالأردن

مثلا .

   أعرف ، أن أكثركم يصعب عليه استيعاب هذه الحقيقة ، فجلكم لم يمارس الديمقراطية طوال حياته ، وكلكم ، ربما ، لم ير صندوق الاقتراع في حياته ، لا على مستوى العراق ولا على المستوى الحزبي الداخلي ، ولكنها الحقيقة التي يجب أن تضعوها نصب أعينكم ، لتبنوا على أساسها واقعكم الجديد .

   إن انتخابكم من قبل العراقيين ، هو الأقرب إلى الحقيقة ، من بين كل الانتخابات المسرحية التي يشهدها العالم العربي بين الفينة والأخرى ، كلما احتاجها الحاكم لذر الرماد في العيون ، أو لامتصاص نقمة شعبية ، أو للرد على تقرير دولي يهتم بحالات حقوق الإنسان ، ولذلك فان تبوءكم لمقاعدكم في المجلس النيابي ، لا يشابهه شئ في البلاد العربية ، والكثير من البلاد الإسلامية ، التي اعتادت شعوبها أن ترى ممثلا واحدا على حلبة المسرح ، يفوز دائما بالنسبة الكاملة ، كما كان يفعل نظام الطاغية الذليل .

   لذلك ، عليكم أن تكونوا نواب الشعب وليس نواب الحكومة ، أو نواب زعيم الحزب ، من اجل أن تمارسوا مسؤولياتكم على أحسن وجه ، فتراقبوا الحكومة وتحاسبوا المسؤولين وتتابعوا حركة المال العام والتعيينات ، بلا خوف أو وجل ، لتحاربوا الرشوة والمحسوبية والسرقة والمداراة ، وكل عوامل الفساد الإداري والمالي المستشري اليوم في الوزارات العراقية ودوائر الدولة . 

   وعليكم أن تضعوا نصب أعينكم مصالح العراقيين ، وتدافعوا عنها ، لتردوا لهم جميل ثقتهم فيكم ، فلا تخيبوا ظنهم فيكم ، وفي الحديث عن رسول الله (ص) يقول : (إذا أحسن امرئ بك ظنه ، فصدق ظنه) ، فلنرى كيف ستصدقون ظن العراقيين فيكم ، والا ، فان أمامكم مشوار طويل ، سيقف فيه العراقيون مرات وكرات أمام صندوق الاقتراع ، ليقولوا رأيهم فيكم وفي غيركم ، وإذا كان باستطاعة العراقيين أن يحملوكم إلى مقاعد البرلمان في هذه الانتخابات ، فان بامكانهم ، كذلك ، أن يحملوكم إلى مزابل التاريخ في المرات القادمة ، إذا أسأتم توظيف الثقة التي منحوها لكم ، وأسأتم التصرف ، وتذكروا دائما بأن هذه الانتخابات ليست نهاية التاريخ ، وأن لهذا اليوم الذي أنتم فيه ، له ما بعده ، فافعلوا خيرا تجزون خيرا ، وأنجزوا خيرا تمنحون ثقة من جديد .

   عليكم أن تصونوا ثقة العراقيين بكم ، من خلال صيانة شرف مسؤولية الموقع الذي تبوأتموه ، ومن خلال صيانة دماء العراقيين وأرواحهم وشرفهم ودينهم والمال العام ومواقع المسؤوليات وأمنهم ، وكل ما يرتبط بهم من قريب أو بعيد .

   ليكن همكم الذي يؤرق ليلكم ويشغل بالكم ، خدمة العراق والعراقيين ، فلا تستعجلوا السرقة والغش والتزوير ، كما فعل أسلافكم ، فان (أعظم الخيانة ، خيانة الأمة) كما في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) .

   ثانيا ــ صحيح أنكم تمثلون الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي ، ولكن عليكم أن لا تنسوا حقوق الأقلية الضئيلة التي همشت نفسها بنفسها ، عندما رفضت المشاركة في الانتخابات ، أو منعت من ذلك ، لأي سبب كان ، كالمراهنة ، مثلا ، على الإرهاب الذي تصورت بأنه سيفل من عزيمة العراقيين ، فلا يشتركوا في الانتخابات ، أو خوفا منه .

   أما الآن وقد فاز العراق وانهزم الإرهابيون ، وفزتم بثقة العراقيين ، فعليكم أن تضعوا نصب أعينكم مصالح كل العراقيين ، من خلال تجاوز مخلفات الماضي وآثار الزمن الذي ولى ، فتضعوا الانتماء الطائفي والاثني والسياسي والفكري جانبا ، وتستحضروا الانتماء الوطني فقط ، من اجل أن تصونوا حقوق كل العراقيين ، كمواطنين من الدرجة الأولى ، بغض النظر عن أي انتماء آخر ، فالوطن هو الوعاء الكبير الذي يحتضن الجميع ، مهما اختلفت انتماءات المواطنين .

   على كل واحد فيكم ، أن يتذكر بأنه يمثل كل العراقيين ، وليس دينه أو مذهبه أو قوميته أو حزبه أو تياره ، ليشعر كل العراقيين ، حتى أولئك الذين لم يحالفهم الحظ في المشاركة في الانتخابات ، ولأي سبب كان ، بأنهم ممثلون ، بالفعل ،  في المجلس التأسيسي ، وان هناك من سيحرص على تثبيت حقوقه في الدستور العراقي الجديد وفي النظام السياسي الجديد ، وان هناك في المجلس من سيقاتل من أجل صيانة حقوق كل مواطن عراقي ، فردا فردا ، وأنه سوف لن يسمح لأحد ، بأن يتجاوز على حق من حقوق المواطن ، كمواطن ، أو يغمض عينه عنه .

   لا نريد أن نشهد تضخما لحقوق شريحة من العراقيين ، على حساب ضمور حقوق شريحة أخرى ، أبدا ، فاستقرار العراق الجديد مرهون بالتوازن الحقيقي والفعلي لحقوق كل مكونات الشعب العراقي ، بغض النظر عن أي انتماء .

   لا نريد لأية أقلية أن تشعر بالغبن ، ولا نريد لأية أكثرية أن تزهو بالطغيان على حقوق الآخرين ، فالديمقراطية لا تعني حكم الأكثرية التي تفرزها صناديق الاقتراع ، فحسب ، وإنما تعني بالدرجة الأولى ، قدرة الأكثرية على صيانة حقوق الأقلية ، وكذلك تعني قدرة الأقلية على أن تكون في يوم من الأيام أكثرية عند صندوق الاقتراع ، وهذا بحاجة أولا وقبل كل شئ ، إلى أن يتحول مفهوم الأكثرية والأقلية في العراق الجديد ، من الأكثرية أو الأقلية الدينية أو المذهبية أو القومية (الاثنية) إلى الأكثرية أو الأقلية السياسية فقط ، والتي ستتنافس عند صندوق الاقتراع ، على أساس برامجها السياسية وليس على أساس انتماءاتها الدينية أو المذهبية أو الاثنية أو ما إلى ذلك ، من الانتماءات التي لا تخدم العملية الديمقراطية الجديدة ــ إذا استمرت ــ بأي شكل من الأشكال .

   ثالثا ــ تذكروا دائما ، بأنكم تؤسسون للتاريخ ، بالإضافة إلى الحاضر ، وهذا يتطلب منكم أن تكونوا رجالا استراتيجيين ، فلا تنشغلوا بملايين التكتيكات التي لا تعادل بوزنها وأهميتها ، استراتيجية واحدة ، فمثل التكتيكات كمثل النار في الهشيم ، تشتعل بسرعة وتنطفي بسرعة ، أما النار التي تشتعل في الحطب ، فصحيح أنها تأخذ وقتا لتلتهب ، إلا أنها تستمر طويلا طويلا قبل أن تخمد ، ولذلك فهي أكثر نفعا للناس من نار الهشيم .

   تذكروا بأن عراقا جديدا طور التأسيس والتكوين ، وإذا كان جيلكم سينقرض بأجساده خلال الزمن المنظور ، فان عليكم أن تنجزوا ما يؤسس لبناء عراق ثابت ومستقر ، تمتد آثار إنجازاتكم فيه إلى عشرات ، بل مئات السنين ، وعندها ، فبدلا من أن تشملكم الأجيال القادمة باللعن مع كل طاغوت مر على العراق ، فإنها ستترحم عليكم ، وتتذكركم بكل خير ، ووقتها ، سيفخر أبناؤكم وأحفادكم بإنجازاتكم الاستراتيجية التاريخية .

   لقد شاء الله تعالى أن تتبوءوا مقاعد المسؤولية في العراق ، في ظرف تاريخي هو من أخطر وأعقد المراحل التاريخية التي مر بها العراق ، فإنكم ستساهمون في صياغة الدستور الدائم ، وأنكم ستساهمون في الانتقال بالعراق من منعطف إلى آخر ، وأن عيون العراقيين ، ومعهم عيون العالم ، شاخصة إليكم ، فهل ستقروا عيوننا ، ام ماذا ؟ .

   نتمنى أن تكونوا بمستوى المسؤولية التاريخية ، وبمستوى تحديات الحدث العراقي الكبير ، من خلال الانشغال بالأهم من الأمور وسحق الأنانية وتجاوز الانتماءات المختلفة ، إلا الانتماء إلى العراق وشعبه ، لتصونوا العراق من مخاطر التقسيم والحرب الأهلية وغياب السيادة والمؤسسات الدستورية ، وتصونوا حرية العراقيين وكرامتهم وشرفهم وتضحياتهم ودماء شهدائهم ،  ولتكونوا ضمير العراقيين الذين منحوكم ثقتهم ، من خلال الإصغاء إلى نبض الشارع العراقي ، وليس إلى أي شئ آخر .

   رابعا ــ بادروا إلى تشكيل حكومة وطنية قوية ، قوامها العناصر الكفوءة والنزيهة ،  صاحبة الخبرة والتجربة والتاريخ النضالي والجهادي الطويل .

   لا تطعموا حكومتكم بأيتام النظام البائد محاباة أو أثرة ، كما فعل الأخضر الإبراهيمي من قبل ، فلستم مضطرين إلى هذا الأمر، وإذا غفر العراقيون لمجلس الحكم المنحل ذلك ، بحجة الضغوط التي مورست عليه من قبل الأمم المتحدة وغيرها ، فإنهم سوف لن يغفروا لكم ذلك إذا ما تكرر الخطأ مرة أخرى ، إذ ليس لكم حجة إذا ارتكبتم الخطأ من جديد ، لأنكم تستمدون قوتكم من الشعب وليس من المحتل أو الأمم المتحدة ، كما كان في السابق ، وليس عليكم من وصي سوى العراقيين أنفسهم ، فلماذا تنتهجوا الخطأ في تشكيل الحكومة القادمة ؟ .

   بادروا إلى تنظيف أجهزة الدولة من أيتام النظام البائد ، وطهروا مرافقها من المجرمين والإرهابيين ومجموعات العنف والطائفيين والفاشلين والموتورين .

   بادروا ، كذلك ، إلى تصحيح مسارات تشكيل بعض الوزارات والأجهزة الحساسة ، التي قسمت خطأ على أساس طائفي أو ترضية للقومجيين العرب

ولأيتام النظام البائد ، كوزارتي الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات . 

   طهروا هذه الوزارات ، على وجه التحديد ، من أيتام النظام البائد ومن الطائفيين والعنصريين الحاقدين ، ومن الموتورين والفاشلين والمهزومين ، ومن العناصر التي ثبت تواصلها وتعاونها مع أعداء العراق ، بصورة من الصور، فهي وزارات وأجهزة حساسة جدا ، حتى لا تتكرر المقابر الجماعية والأنفال وحلبجة ولعبة الانقلابات العسكرية من جديد .

   ليدخل الحكومة وأجهزة الدولة ، ضحايا الاستبداد والديكتاتورية والعنف والإرهاب فقط ، وما أكثرهم ، وفيهم أفضل الكفاءات والخبرات ، وليترك الوزارة أيتام النظام البائد وأيتام الاستبداد ومجموعات العنف والإرهاب ، إلى غير رجعة ، حتى يتوفاهم الله أو يجعل لهم سبيلا ، فمثلهم كمثل الارضة ، يبدأ عملها صغيرا ، لينتهي بخراب البيت وانهدام المنزل على رؤوس ساكنيه .

   كلمة أخيرة أقولها لمن لم يفز بمقعد في هذه الانتخابات .

   إنها ليست نهاية التاريخ ، فأمامكم مشوار طويل ، إن أحسنتم الأداء فستفوزون في اللاحق منها ، إذ ليس المهم الموقع ، وإنما المهم هو الأداء ، فإذا صفيت النوايا لخدمة العراقيين ، فسيمنحونكم الثقة في المرات القادمة .

   أما الذين جاءت حساباتهم خاطئة ، عندما قاطعوا الانتخابات لسبب من الأسباب ، فعليهم أن يتذكروا كذلك ، بأن بامكانهم تصحيح الخطأ إذا أصغوا إلى نداء العقل ، والى نداء العراقيين الذين اختاروا ما أرادوا في يوم الأحد ، شريطة أن لا يحنوا إلى الماضي ، ولا يتأسفوا على ما فقدوه بسقوط النظام الشمولي البائد ، وان ينظروا إلى الأمام ، والى الأمام فقط .

  

10 شباط 2005

 

  

HOME