نظام الشَّعب: الكونفدرالية الديموقراطية

   

روزة اليوسف

 هناك واقع يتفق عليه الجميع: إن العالم يعاني أزمة خانقة وفوضوية فظيعة نتيجة السياسات القائمة حاليًّا، سواء كان مصدرها القوى التي تسيِّرها الرأسماليةُ التي تتخذ "الليبرالية الجديدة" مخرجًا لها وتقوم بتطوير العولمة والترويج لها، أو الحركات التي تسمِّي نفسها بـ"اليسارية" وتسعى إلى الاستيلاء على صلاحيات الدولة كلِّها، ومن بعدُ القيام بالتغيير المطلوب في المجتمع كمفهوم أساسي في "نضالها"! ولأن الاستراتيجيات المتبَعة كانت خاطئة في مجملها، فإنها، على الرغم من انتصارها، لم تحقق للشعوب ما ادَّعته من حرية ومساواة وعدالة، وذلك لأنها جميعًا تعتمد على السيطرة وعلى سيادة مفهوم "الدولة" الذي تكمن في خميرته الطبقيةُ واللامساواة.

إن مؤسَّسة الدولة التي ظهرت منذ آلاف السنين، والتي غيَّرت من نماذجها على مرِّ التاريخ، صارت إلى مرحلة تجاوَزَها العصرُ وأمست بلاءً على البشرية بأسرها. لذا يُعتبَر تقليصُها واضمحلالُها مع الزمن من المهمات الأساسية للحركات الثورية المناهضة – وإلا فإن العمل في إطار الدولة والتمحور حولها لن يقود إلا إلى هزيمة أخرى!

وهذا يعني أن هناك حاجةً ملحة إلى تغيير الممارسات الموجودة على الساحة السياسية وإلى تحقيق تطوير في الذهنية وفي النظرة الدوغمائية إلى المسائل – ناهيك عن الحاجة الماسة إلى بناء نظام جديد في العلاقات، سواء داخل الحركات أم في المجتمع، بحيث تكون هذه العلاقات بعيدة عن الهرمية وعن التحكم في إرادة الإنسان وتسود فيها اللامركزية. وبقدر ما تتأسَّس الحركات الإيكولوجية على الأخلاق، يجب عليها أن تمارس سياسةً ديموقراطية وأن تبني نظامًا مناهضًا للنظام القائم، وذلك خارج نطاق سيطرة الدولة والسلطة.

وهنا تطرح الكونفدرالية الديموقراطية نفسَها كبديل عن الأنظمة القائمة، سواء الأنظمة الإمبراطورية التي يطوِّرها الغرب أم أنظمة الدول القزمة التي تريد أن تتطور في منطقتنا في الوقت الراهن على يد القوى الرجعية المتزمتة والحكومات الدكتاتورية التي تحكم البلاد والعباد.

الكونفدرالية ستكون المحور الذي يجمع قوى الشعب لإيصاله إلى إدارة نفسه بنفسه، وذلك لأنها مختلفة تمامًا عن الأنظمة الأخرى، إنْ من ناحية المبادئ أم من ناحية القوى التي تعتمد عليها. ويمكن لنا قول الشيء نفسه بخصوص الفدرالية أيضًا، بمقدار ما تعتمد هذه إصلاحَ الدولة وإضعاف المركزية. والاتحاد الأوروبي هو مثال على النظام الفدرالي، لأنه بدأ بتجاوز مفهوم الدولة الوطنية رويدًا رويدًا. لكن المشكلة في النظام الفدرالي هي أنه مازال يعتمد على الدولة ويشملها، بمعنى أن المركزية مازالت موجودةً فيه، بحيث تكون الأولوية لمصلحة الدولة، وليس لمنفعة الشعب.

أما الكونفدرالية الديموقراطية، فلا يوجد أي ارتباط عضوي بينها وبين الدولة، وهي خارجة عنها: فهي لا تتنكر للدولة، لكنها، في الوقت نفسه، لا تنضم إليها، بل تضع نصب عينها كأولوية مطلقة مصالحَ المجتمع والحياة المشتركة المختارة اختيارًا طوعيًّا في ترابط متكامل وموحَّد في البنية الاجتماعية.

ولهذا النمط من الكونفدرالية ارتباط وثيق بالديموقراطية؛ إذ هما صنوان لا يفترقان، كارتباط الظفر باللحم. ولأن الديموقراطية هي الإدارة المباشرة للشعب وأسلوب حياة، ولأنها الروح التي طالما عملت الشعوب على حمايتها على مرِّ العصور، فإن العلاقات فيما بينهما علاقات إيكولوجية، يتمِّم بعضُها بعضًا – وإلا فإن خطرًا داهمًا سيكون لها بالمرصاد: الانزلاق والتحول إلى نظام مشابه للأنظمة المستبدة السائدة، سواء بدفع من القوى الداخلية أم الخارجية.

يتمثَّل المبدأ الأساسي للكونفدرالية الديموقراطية في الاعتماد على اللامركزية. أي أن البنية يجب أن تكون مرنة، درءًا للمركزية وللسير وفق آلية أوامر الإداريين الفردية وتعليماتهم.

ويكون انخراط الأفراد العفوي في الكونفدرالية الديموقراطية مباشرًا وديموقراطيًّا. والانضباط في هذه العملية يكون ذاتيًّا؛ أي أنه يعتمد على الفرد الحر الذي يكون، في الوقت نفسه، مواطنًا فعالاً على علاقة عضوية بالمؤسَّسات الديموقراطية – مواطنًا روَّض نفسَه أخلاقيًّا – وعلى علاقة واعية مع الطبيعة. فالقوة الذاتية تُعتبَر من المبادئ الأساسية للكونفدرالية.

وكذلك المشاعيات المحلِّية تشكل الأساس في النظام الكونفدرالي. إذ إن المركزية التي بدأت في المدن تمَّ تحويلها من بعدُ إلى نظام الدولة، حيث قضت هذه على البنية الكونفدرالية التي كانت موجودة في المجتمع الطبيعي. لذا فإن استرداد الصلاحيات من يد النخبة الحاكمة وإعطاءها للمجالس المحلِّية والبلدية هو الطريق الأمثل للتخلص من البيروقراطية.

والمبدأ الآخر للكونفدرالية هو التبعية المتبادلة: إنه نظام يعتمد على الترابط بين الفرد والمجتمع، بين الريف والمدينة. فالاكتفاء الذاتي يُعتبَر مبدأ مهمًّا جدًّا بنظر القوى التي تنخرط في الكونفدرالية الديموقراطية – هذا بالإضافة إلى أن الكونفدرالية تضع الأسُس لعلاقة صحيحة بين الإنسان وبين السيرورات الإيكولوجية وتقوم في سياساتها الاقتصادية على التوزيع بحسب الحاجات.

تستمد الكونفدرالية الديموقراطية قوَّتها من عدة منابع: وهذه، بدايةً، هي التنظيمات الاجتماعية الديموقراطية التي ترسِّخ المبادئ المذكورة أعلاه في بنيتها، وتكون بعيدة عن النفعية وعن الهرمية، وتتخذ إرادة الفرد أساسًا، إذ تتكون من الأفراد المتطوعين والأحرار الذين يحققون عملية التغيير الأولى في أنفسهم.

ثمة منبع آخر لقوة الكونفدرالية هو البنية الاقتصادية المشاعية، وذلك عِبْر استخدام المنابع الاقتصادية استخدامًا إيكولوجيًّا، والقضاء على البطالة، وذلك بتطوير مشاريع تدرسها وتخطط لها المجالسُ المحلِّية، بغية إنقاذ الاقتصاد من براثن بعض أصحاب الشركات التي باتت الآن تعيش مرحلة ما يُعرَف بالـ"انكماش" deflation، أي الاضطرار إلى تخفيض أسعار السلع بسبب الهبوط الموجود في الشراء والعجز عن تطوير المشاريع وتفاقم مشكلة البطالة.

والتنظيمات الثقافية والسياسية المشاعية، المتجاوِزة لذهنية الدولة، التي تستمد من الفوارق الاجتماعية السائدة غنًى وتؤسِّس نفسها عليها، هي من المنابع الأساسية للكونفدرالية.

كذلك فإن الإعلام المتحرر، الذي يعمل على تنوير المجتمع، هو أيضًا من المنابع التي يعتمد عليها النظامُ الكونفدرالي، بوصفه يقاوم تسليع وعي الجماهير. ولأن التفكير الألمعي والعلمي هو مفتاح حلِّ المشكلات التي يعاني منها المجتمع كلها، فإن تقديم المعلومة الصحيحة وإتاحة التواصل السليم بعيدًا عن التجارة، في مرحلة تجتاح وسائلُ الاتصال عقولَ الناس وتسمِّمها يوميًّا، يُعتبَر من المهمات الضرورية.

هذا ومن المنابع الأخرى المهمة مناهضة العولمة الاقتصادية المنتشرة في العالم من جراء تفشِّي الليبرالية الجديدة والشركات الرأسمالية التي تدعمها. ويتم ذلك بتوحيد الحركات البعيدة عن الهرمية فيما بينها وتنسيق استراتيجيات مشتركة على نطاق العالم.

يتضمن النظام الكونفدرالي شبكةً من المجالس الإدارية، ويتم انتخاب الأعضاء أو المشاركين من المجالس الديموقراطية المعتمِدة على العلاقات المتبادلة بين القرى والنواحي ومحلات المدن. وتقوم المجالس الشعبية برسم السياسات، ويكون التنسيق والإدارة بيد هذه المجالس. وتتغير هذه المجالس بسرعة، فلا تفسح المجال أمام البيروقراطية. والاحتراف في المجال الإداري يعتمد على الالتزام الديموقراطي ويقوم بتطوير الارتباط بين القرى والنواحي والمدن. هذا وتكون السلطة من الأسفل إلى الأعلى، بحيث تكون صلاحيات المجالس السفلى أوسع من العليا. وبذا يتم تحديد الإنتاج والسياسة تحديدًا مشتركًا، فيسود التكاملُ والوحدة والتبعية المتبادلة بين المناطق.

والنظام الكونفدرالي نظام يحقق استقلالية الفرد، وذلك لأن الانخراط فيه يكون طوعيًّا وواعيًا وإراديًّا. ومفهوم المساعدة هو الذي يسود، بحيث إن الترابط لا يأسر إرادة الآخر ويعتبر التنوعَ الاجتماعي الموجود من صميم هوية المجتمع الإيكولوجي المنشود.

وبالطبع، تُعتبَر الشبيبة والنساء القوى الطليعية في تحقيق هذا النظام، لأن هؤلاء أكثر الناس كفاءة من حيث الذهنية والبنية الاجتماعية في تطبيق متطلبات هذا النظام. فكلما كانت الذهنية بعيدةً عن التسلط والتحكم والهرمية اقتربتْ من حقيقة النظام الكونفدرالي الديموقراطي. لذا فإن دور المرأة مهم جدًّا، وكذلك دور الشبيبة، في تقويض الذهنية الهرمية، بدءًا من العائلة والمدرسة – المؤسَّستين الأساسيتين في التأثير على الفرد والمجتمع. وكذلك المصنع، العمل الروتيني، قدسية الملكية، إنكار حق الفرد – هذه كلها مؤسَّسات ومفاهيم يجب العمل على تجاوُزها. وبهذا الشكل، لن تحال الطبقةُ الرأسمالية إلى محكمة التاريخ وحسب، بل ستتم كذلك محاكمةُ ميراث الاستبداد والسلطة، بدءًا من الرهبان السومريين وحتى يومنا الراهن، الذي كبَّل الفرد طوال آلاف السنين، حتى انتقش هذا الميراثُ الرث في اللاوعي الجمعي للإنسان. لذا فإن حركة التنوير الموازية المطلوبة هي العمل، منذ البداية، على تغيير ما هو خارج عن وعي الإنسان الفرد.

ولأن النظام الكونفدرالي ينبذ العنف والحرب، فإن الأنظمة القائمة يجب ألا تنهار بالحرب والعنف، بل نتيجة تفريغ مؤسساتها من جوهرها، وذلك بإضعافها من الناحيتين المعنوية والمادية من خلال حركة التنوير. ومن أجل تجاوُز هذا العالم المجنون، يُعتبَر بناء الأفراد والحركات الإيكولوجية أمرًا حيويًّا، لأن الناس، كما يقول عالِم الاجتماع بوكين، يحتاجون إلى المنطق بديلاً عن الخرافة، وإلى الحرية بديلاً عن المصلحة الشخصية، وإلى الانفتاح بديلاً عن الانغلاق، وإلى الإبداع بديلاً عن المحاكاة، وإلى الاستقرار بديلاً عن الفوضوية، وإلى الأفكار التي تعتمد على المجتمع الحر ومجالس الشعب الكونفدرالية بديلةً عن الاعتماد على الدولة.

مما سبق كله، نرى بأن النظام اللائق بإنسانية الإنسان هو النظام الكونفدرالي. يقول بعضهم إن الكونفدرالية هي "الصفحة الأخيرة" من صفحات المجتمع – ولكن العكس صحيح أيضًا: إذ إنها تشكل "الصفحة الأولى" من صفحات المجتمع الإيكولوجي المنشود، حيث ستجد الإنسانية، بعد طول عناء، الفرصةَ في حلِّ مشكلاتها حلاً جذريًّا. فقديمًا، كان يتم استبدال نظام متحكم آخر بالنظام المتحكم السائد، فلا يتغير أي شيء بالنسبة للشعوب والأناس المضطهَدين.

وفي وقتنا هذا، تعمل الليبرالية الجديدة على شنِّ هجوم على الشعوب باسم العولمة وتحت شعارات براقة، هدفها ليس القضاء على ذهنية الدولة والاستبداد، بل المزيد من طحن الإنسان في مطحنة الدولة؛ وما تقوم به من تغيير في الأسماء، وإنْ كان تحت ستار الفدرالية أو الكونفدرالية، لا يستهدف الوصول إلا إلى إمبراطورية مركزية تشمل العالم أجمع. لذا فإن الكونفدرالية الديموقراطية هي قوة الشعب التي ستقوم بالتصدي لهذه المركزية.

وبقدر ما تشكل الليبرالية الجديدة استعادةً للنظام الطبقي القديم في لبوس جديد، فإن الكونفدرالية الديموقراطية تمثل ثمرة جهود المضطهَدين كافة ضد سائر أشكال اللامساواة والمركزية واحتكار الملكية في تاريخ البشرية؛ وهي انبعاث جديد للمجتمع الإيكولوجي التحرري الديموقراطي الخالي من أيِّ تمييز على أساسٍ من العِرْق أو الجنس أو الانتماء الديني والمذهبي.

27/3/2005

*** *** ***