فينوس فايق...
کوردستان الممنوعة من الصرف تغشى وجدها الأرق من النسمة فکان مخاض الشعر !

 نزار جاف
 کاتب و صحفي کوردي
مقيم في المانيا

 

من لم يقرأ لفينوس فايق و يبحر في مدن مملکتها الشعرية، له الحق ان يتصورها رقما مألوفا کسائر الارقام الشعرية الانثوية الاخرى، وله الحق ايضا ان لايأبه لاسمها و يعدها کسائر الاسماء الاخرى التي تدعي ملکة الشعر! لکن لو منح شيئا من وقته و أبحر في دنيا شعرها، حينئذ ومن دون شک سيجد نفسه ولامحالة مأخوذا و مبهورا بالفسيفساء الشعرية الحالمة لها و يبقى مشدودا لصروح مخيلتها المسافرة دوما في متاهات اللانهاية لفنتازيا المزاوجة بين ماهو کائن و مايجب أن يکون!

فينوس الحالمة منذ نعومة أظافرها،و لم تستطع أن تصحو من هدأة أحلامها و مشوار العمر يعدو بها، هي في عين اللحظة فينوس الطفلة المرعوبة بوقع أقدام رجال الامن البعثيين و بمداهمتهم لبيتها و جرها من ظفائرها مع أبيها المکبل و المعصوب العينين صوب عوالم الرعب و الفناء، عوالم من العدم و المغالاة في الرعب مخصصة لمن خلقه الرب على هيئة کوردي، هکذا کانت الصورة الاولى للدنيا في عيني فينوس فائق، هذه الصورة التي لاتزال تلازم مخيلتها و تحدد أطر و مسارات جنوح الوجد الشعري في أغوارها.

" أخاف أن أصحو يوما

فاجدهم يحرقون شفتاي

کي لا أستطيع أن أقبلک ثانية

أخاف أن أصحو يوما

فاجدهم يشنقون لساني

حتى لا أقول لک "أحبک"

مرة ثانية

أخاف أن لا أجد

قانونا من قوانين العقل

تمنحک الشرعية

سوى

جسرا من القبل

و خيطا من الجنون

وقارة من الحب "

أخاف، يحرقون، يشنقون، الجنون، مفردات من عقلها الباطن يطفو الى سطح بحرها الشعري، هي في الحقيقة مفردات زمن القهر و الاستلاب و إغتيال الطفولة، إنها المفردات الاولى المدافة قسرا في رياض طفولتها البريئة. من هنا کان غزلها في أبهى و أزهى حالات تألق قلبها الانثوي، لا يستطيع الفکاک أو الخلاص من ظلال ماضيها الرهيب. إنها تهجع للکرى و تصحو منه و کوابيس الخوف و دواليب الموت تطاردها في يقظتها و منامها، حتى يغدو شعرها ممزقا و مشتتا بين عالم واقعها الطفولي المر و عالم واقعها الحالي الذي تتمنى أن يکون کما يجب أن يکون.

" ذات صباح زرعت وطنا

طرح جرحا

زرعت مدينة

طرحت ألما

زرعت زقاقا

طرح نحيبا

زرعت بيتا

طرح نعشا

زرعت وردة

طرحت وطنا جريحا "

مجرد التأمل في المقطع الشعري الآنف، يبدو واضح و جلي تصارع الضدين، أو بالاحرى الزمنين الضدين، إنها تتفائل و تندفع صوب بوابات الحياة حينما" تزرع" لکن تفاؤلها و إندفاعها يصطدم بعقم ماضيها الکئيب، ماضي لاترى في أفانينه سوى العقارب و الثعابين و الذئاب!  إنها تزرع وطنا و  مدينة و زقاقا و بيتا و وردة لکن قطافها کان جرحا و ألما و نحيبا و نعشا و وطنا جريحا! والحق أن شعور المرارة و الاحباط هذا لم يأت إعتباطا و أنما من خيبة أملها في الحاضر و تشاؤمها من المستقبل. فينوس تدرک المعنى الرهيب للجغرافيا السياسية التي تحاصر أحلامها و تخنق أمانيها قبل أن تصادر حق الاستقلال من وطنها الکوردستاني المحاصر بألف علة و مبرر و دافع !

" هذا وطن التوابيت المليئة بالصراخ

وطن الاکفان الملفوفة حول جسد الصوت

هذا وطن على محيا خارطة ممزقة

هذا وطن بلا وطن "

 

"وطن التوابيت المليئة بالصراخ، وطن الاکفان الملفوفة حول جسد الصوت"جملتان شعريتان متوازيتان ترسمان بمنتهى الدقة حالة الکبت الکوردي، حکومة البعث کانت تعدم الشباب الکوردي رميا بالرصاص لکنها کانت تطالب أهل المعدوم بثمن الرصاصات التي إنهمرت على جسد الضحية، وليس هذا فحسب وأنما کانت تفرض عليهم أيضا عدم إقامة مراسم العزاء حزنا عليه! فالصوت ، حتى صوت الحزن کان في عهد البعث محاصرا و مکبوتا الى حد الخنق! هذا الوطن " کوردستان " الممزق الخارطة و المسلوب الارادة، تراه فينوس من فرط إحساسها بالکبت و الاختناق و الحصار، وطن بلا هوية، بلا حدود معترفة بها دوليا، بلا راية، أي وطن هذا ؟ إنه في نظرها وفي لحظة تکاد تکون ذروة إحساسها بالاحباط " وطن بلا وطن "!  والحقيقة ان الاحساس باليأس و الاحباط يقود الشاعر في أحايين کثيرة الى البوح بانواع غير مألوفة من الاقرارات مثل الذي باحت به فينوس حول وطنها الکوردستاني، ففي هذا السياق نجد شاعرا عراقيا کبيرا هو مظفر النواب يقول عن وطنه :

" هل وطن تحکمه الافخاذ الملکية

هذا وطن أم مبغى "

وبوح النواب بهذا الاقرار لم يأت من تلقاء نفسه وانما من جراء معانات داخلية عميقة تولدت عنده من نتيجة مرارة الواقع الموضوعي الذي يحيط به. لکن شاعرتنا تأبى ان تفارق رومانسيتها في فضفضة الالام و العذابات المکبوتة و تزاوجه بشئ من أساطير وطنها الکوردستاني حين تقول :

" هذا وطن کأنه نقش على الماء

يظهر في الحلم و يختفي في الحقيقة

من يمسه بسوء يتحول الى حجر في کهف هزار ميرد "

 

ذاک الوطن الکوردستاني المصادر ـ المحاصر بالجيوبولتيک ، يترائى لفينوس " کأنه نقش على الماء " لايظهر سوى في الحلم و محکوم عليه بالاختفاء في الحقيقة، إنها لاتذهب حيث ذهب " جبران خلي‌ل جبران " حين قال :

إنما الناس سطور         کتبت لکن بماء

فاذا کتب جبران الناس سطورا بماء ، فأن کوردستان عند فينوس ليس لايکتب بماء فحسب وانما هو مجرد حلم هو أقرب للوهم يظهر في عالم الرؤيا و يمحيه الواقع ! بيد أن فينوس ترفض هذه العلاقة السلبية ـ الجدلية مابين الواقع و الخيال، لذلک و کرد فعل شاعرة لاتملک من حطام الدنيا سوى الکلمات، تخيف و ترعب أعداءها بالاسطورة حين تؤکد أن وطنها يدافع ذاتيا عن نفسه و أن من يمسه بسوء يتحول الى حجر في کهف هزار ميرد! وهنا أيضا في سياق تشبيهها لوطنها بنقش على الماء تقترب فينوس من النواب في رؤيتها الفنتازية لوطنها، إذ يقول النواب في هذا الصدد :

"ياوطني المعروض کنجمة صبح في السوق"

هم وطن فينوس" کوردستان" الممنوع من الصرف في القاموس السياسي للمنطقة يرافقها في أبجديات خيالها صوب إعادة صياغة کينونتها من جديد و بعيدا عن واقعها المرير المتجلي في وطن بلا کل شئ سوى المعاناة.

" أتمنى لو أولد من جديد

ولادة أسطورية أخرى

و أکبر مع الريح

و أجوب بلادا لا إسم لها

على خارطة الکون"

من يرغب ببلاد من دون إسم ؟ إنها فينوس فايق التي تريد التمرد " شعريا" ليس على واقع وطنها فحسب وإنما على الکون کله!! إنها تريد أن توزع العدالة في أسماء الاوطان من جديد، فتلغي کل الاسماء حتى لاتکتوي بنار خلو خارطة الدنيا من إسم وطن يدعى " کوردستان" ! لکن فينوس لاتکتفي بهذا وإنما تتجاوزه الى الابعد بکثير، فهي ومن خلال نرسيس " الاسطورة" تخاطب الرب بعذاباتها و هي تنوح :

" ردد معي نرسيس

آية من صراخ عربة مليئة بالاطفال

آية من دموع الصبايا ذوات الشعر الغجري

وسورة من الموت الجماعي

وسورة من دماء تفوح منها رائحة الربيع

مدفونة تحت تراب بلون الجحيم

قف بجانبي على سجادة أمي و لنصلي

182 ألف رکعة و رکعة

ولنردد 182 ألف مرة و مرة آية الانفال

وأبحث معي بين حروفها

إن کان الله أجاز موت أمي وهي تصلي له "

إنها کلمات تضطرم سعيرا في أغوارها و تتجدد عذابا في معاناتها في کل لحظة من العمر، 182 برئ تسلب أرواحهم جماعيا لا لشئ سوى إن الرب خلقهم کوردا و بعث صدام يرى ذلک کثيرا بحقهم! إنها تتصور النساء الکورديات المؤمنات اللائي تمت أنفلتهن في دواليب الموت البعثية ، بمثابة أمها ولذا تستشيط ألما و تطالب بمسائلة الرب ذاته عن هذه الفاجعة النادرة المثيل في التأريخ المعاصر.

" تعال نلقي القبض على الله بدلا الغول

ونسأله 182 ألف سؤال

عن وطن کان شمسا

وصار دمعة

فتسلل الى أعماقي کروح طفلة مؤنفلة

ونحاکمه 182 ألف مرة

ونغرمه 182 ألف روح

ولنجعل التراب شاهدا بيننا

ألايقول أننا من التراب و الى التراب؟؟؟ "

إنه عذاب بلا أفق و حدود ذلک الذي يدفع الانسان الى مسائلة ربه بهذه الصيغة المملوئة مأساتا، إنه الکبت القاتل الذي کان يلسع بسياطه أعماق کل کوردستاني ممنوع من البوح بمجزرة بشرية رهيبة بأسم الدين أطاحت بأرواح 182 کوردستانيا على مرئى و مسمع من العالم و الرب ذاته فلم يکن هناک في الآفاق من مغيث! وفينوس حين تصرح بهذه الصورة، فأن ذلک لايعني إطلاقا إلحادها أو خروجها من الدائرة الالهية، وأنما هي في الواقع تريد أن تخاطب ضمير الناس جميعا و خصوصا أولئک الذين لايزالون في مرية من أمر الجرائم الفظيعة التي أرتکبت بحق الکورد من غالبية المثقفين العرب. إنها تطرح ألم وطنها کوردستان الذي تسلل الى أعماقها کروح طفلة مؤنفلة و غدا جزءا من وجودها ـ عذابها المتوحدان في کينونتها کإنسانة کوردية. فينوس فايق هي بحق سفيرة أحزان و آلام و تطلعات مايزيد على 40 مليون کوردي مشتتين في وطنهم قبل البلدان الاخرى التي يمموا وجوههم صوبها. وهي فوق ذلک شاعرة متمکنة من ناصية لغتها الشعرية فترسم صورا خلابة من دنيا خيالها الثر و يموج التداعي في بحور صورها و معانيها لتخلق آفاقا جديدة تدعونا معها للابحار الى عوالمها الرقيقة ، عوالم فينوس فايق .

 

 

HOME